مغفور لك يا «محمد على» حكمك المطلق ومذابح المماليك، مغفور لك المغامرات العسكرية وقهر الفلاحين. البعثة الكبرى التى أرسلتها عام ١٨٢٦م إلى فرنسا لدراسة العلوم: الطب البشرى والبيطرى، الكيمياء، الهندسة الحربية، علوم البحرية، الزراعة والعمارة والتاريخ الطبيعى. تنوع يشير إلى عزمك على النهوض بمصر إلى المكانة التى تستحقها واحتلتها عبر التاريخ.
الحب هو ما يفسر متابعتك لأداء سفراء العلم، والحنان الأبوى هو ما دفعك لإرسال رفاعة الطهطاوى إماما ومرشدا روحيا يحفظ أبناءك من فتنة التغريب. ومن أين لك أن تعلم أن هذا الإمام الشاب بالذات قد تشرّب حب العلم على يد شيخه حسن العطار الذى اقترب من علماء الحملة الفرنسية وأدرك الهوة الواسعة التى تفصلنا عن الغرب فى مجال الحضارة والعلوم.
ليلة بعد ليلة، عاماً بعد عام، والشيخ حسن العطار ينفث فى روع تلميذه حب المعرفة بمعناها الكبير. المعرفة: أول ما افترضه الله على عباده، والسبب الذى فضّل الله به الإنسان على ملائكته وأسجدهم له. ديننا الذى بدأ بكلمة «اقرأ»، وقال تعالى: «إنما يخشى الله من عباده العلماء»، وصرّح رسوله بأن مداد العلماء كدماء الشهداء.
كان رفاعة الطهطاوى مشروع (رائد معرفى) قبل أن يخطو خطوة واحدة خارج البلاد. على سطح السفينة تعلم اللغة الفرنسية. فى باريس استمات فى تحصيل العلوم. وأمام هذه الرغبة الجامحة فى التعلّم ضموه إلى البعثة التعليمية، متخصصا فى الترجمة، وبالفعل أنجز من التراجم ما يضيق به الحصر، بالإضافة إلى تحفته المدهشة «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز»، والتى كانت شهقة مأخوذ أتيح له أن يرى ويتعجب ويندهشٍ.
طهطاوى واحد من هذه الصفوة الممتازة، معلما بالفطرة، مترجما فى الطب والهندسة والفنون العسكرية ثم كان إنجازه الأكبر فى إنشاء مدرسة الألسن لتعليم اللغات الأجنبية، وإعداد طبقة من المترجمين.
خمسة عشر عامًا، ظلت فيها المدرسة منارة للمعرفة حتى عصف بها الحاكم الجديد عباس الأول الذى قام بإغلاقها وأرسله للسودان. الحرب الأزلية بين الأغبياء والأذكياء. طمأنينة الغفلة أمام قلق المعرفة، وركود التخمة أمام وهج العقول.
فى النهاية لا يصح إلا الصحيح. مات الوالى الجاهل، وعاد الطهطاوى إلى القاهرة راضيا مرضيا كريما مكرّما، يمارس نشاطه الثقافى رغم شيخوخته فى همة لا تعرف التعب وسعادة لا يتذوقها إلا المخلصون.