إن العدوان الصهيوني على قطاع غزة/ مع أنه الأكبر حجمًا، والأغزر دمًا، والأبشع منظرًا منذ عام 1967م.. إلا أنه ليس جديدًا ولا غريبًا على إسرائيل، التي استمرأت هذه الأساليب، واستعذبت تلك المجازر، وأَمِنَت على نفسها من غوائل الحرب، واحتمالات الانتقام، التي كانت تأتيها في السنين الخوالي من بين أيديها ومن خلفها.
أما الآن، فقد أحاطت نفسها، ليس فقط بالقنابل الذرية، والصواريخ القارية، ولكن أيضا بالمعاهدات والمناورات والمواءمات.. وقل إن شئت: المماحكات، والسلامات الحارة على الرموز الإسلامية، والتلذذ بالمبادرة العربية، وإعطاء الدروس والنصائح في الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ولا يوجد أي أمل في رد سريع أو بطيء، أو من أي نوع، على فحش ووقاحة اليهود؛ فموازين القوى معروفة، والشعوب مُكَبَّلةٌ مقهورة، والدول العربية لها حسابات أخرى لا نعرفها نحن، وإن عرفناها فالأفضل ألَّا نخوض فيها.. والأسلم ألَّا نناقشها.
والغريب أنَّ إلحاحًا مُمِلًّا من بعض الدول العربية على عقد مؤتمر قمة..الكل يعرف أنه غير مفيد، ولن يقدم أو يؤخر أو يؤثر في مجريات الأحداث، وغاية ما يتمخض عنه هو إدانةٌ للعدوان، ومناشدة للمجتمع الدولي بالتدخل السريع لوقفه، والحيلولة دون تكراره.
وهذا المعني صدر من قادة مجلس التعاون الخليجي، والعدوان أُدِين من معظم سكان وحكام الكرة الأرضية، بعبارات وأساليب أَشَدَّ وأَعْنَفَ مِمَّا حدث في كثيرٍ من الدول العربية والإسلامية، ناهيك عن المهاترات والْمُلَاسَنَات والاحتكاكات غير اللائقة، التي غالبًا ما تحدث في مؤتمرات القمة العربية.
فإذا كان الأمر كذلك، فالأفضل عَدَمُ عَقْدِ هذه القمة، تفاديًا لمزيد من التشرذم والانفلات، ولاسيما أن بعض الدول قد تستغله لمحاكمة مصر، والمزايدة على موقفها وقادتها، وتقديمها ككبش فداء لهذا العدوان الغاشم.
ونحن قد نختلف مع الحكومة المصرية ونُعَارضها في كثير من السياسات والقرارات، وهذا أمرٌ وارِدٌ وحَاصِلٌ ومشروعٌ، والحكومة لا تمنع ذلك.. ولكن هناك فرق بين الحكومة والدولة.
ومن هذا المنطلق، فإني أعتقد أن إدانة مصر والمزايدة على موقفها وتاريخها مع القضية الفلسطينية سلوكٌ مَرْفُوض، ودعايات كاذبة، تخدم أجندات غير عربية وغير إسلامية، ومهاجمة القنصليات والمكاتب الدبلوماسية المصرية في بعض الدول، لا تحركه فقط العاطفة الجياشة للجماهير الغاضبة، ولكن أيضا هناك دوافع سياسية، وتحريض واضح على هذه التصرفات الصغيرة.. وهذا لا يعني أنني متفق تمام الاتفاق مع الموقف المصري، ولا مدافع عن الحكومة. فأنا آخر من يهتم بذلك، وأرى أن دعوة (ليفني) لزيارة القاهرة غير مناسبة، وتصريحات وزير الخارجية (احمد أبو الغيط) بضرورة ضبط النفس ضعيفة، ولها ألف معنى وتأويل، والإصرار على إغلاق معبر رفح وعدم فتحه إلا في وجود السلطة الفلسطينية والمراقبين الأوربيين فيه مبالغة شديدة، والتزام بضوابط غير موجودة، ومستحيلة التحقيق، تلحق أكبر الضرر بالشعب الفلسطيني في غزة.
وهذه ليست دعوة للفوضى والانفلات الأمني، ولكن خير الأمور الوسط، فلا لفتحه دون قيد وشرط، ولا لوضع شروط مستحيلة لذلك.
وفي هذا السياق، فإن التزامُنَ المدبر بين زيارة ( ليفني ) للقاهرة، وبدء العمليات العسكرية في غزة، له أكبر الأثر في إضعاف موقف مصر، وفتح باب التأويلات والهواجس، وهذا مقصود ومُسْتَهْدَفٌ من جانب إسرائيل، وقد نجحتْ فيه تمامًا، وتاريخ الدولة العبرية في هذه الوقاحة الْمُحْرِجَة مع مصر طويلٌ وحافل.
فقد كان (بيجن) في الإسماعيلية في ضيافة الرئيس( السادات ) أثناء قصف طائراته للمفاعل النووي العراقي عام 1980م، وأيضا في عام 1986م إبان أزمة الباخرة الإيطالية ( أكيلي لارو)، وبعد تَوَسُّطِ الرئيس (حسني مبارك )، وحصوله على ضمانات لنقل ( أبو العباس والمجموعة التي نفذت الاختطاف ) من القاهرة إلى الجزائر على متن طائرة مصرية، إذا بالمقاتلات الأمريكية تُجْبِرُ الطائرة المصرية على الهبوط في إحدى الجزر الإيطالية، مِمَّا سبَّب إحراجًا كبيرًا لمصر ورئيسها. ولذا فعلينا أن نتعلم من هذه الأحداث، ولا نحسن الظن بهؤلاء اليهود، مهما أظهروا من حُسْنِ نِيَّةٍ وسلامه قصد.
ثم إنني لست ضد المقاومة، ولا ضد الدفاع عن النفس والأرض والعِرْضِ والمقدسات، ولقد كتبتُ في ذلك مقالا مُفَصَّلًا، والمقاومة لا يجب أن تتحول إلى صَنَمٍ يُعْبَدُ، ولا قبلةٍ نتوجه إليها في الصلاة، فهي في النهاية سياسية، وأسلوب للعمل والتحرر والانعتاق من الظلم والقهر والاحتلال، ويجب أن تخضع للحسابات، وتحكمها الإمكاينات، وتوضع على ميزان المصالح والمفاسد والمآلات.
وأرى أن ( حماس ) أخطأت عندما تحيزت في غزة، فهذا الوضع يُمَكِّنُ إسرائيل من حصارها وضربها بكل سهوله ويسر، كما هو حاصل الآن، ويَحْرِمُ ( حماس ) من إمكانية التغلغل والانغماس في قلب العدو، مثل المقاومة في العراق وأفغانستان، فالفرق الأساسي بين المقاومة والحروب النظامية هو عدم قدرة العدو على رؤية وتحديد مكان للمقاومة.
ومن الظلم قياس ( حماس ) على (حزب الله) في لبنان، فالفرق شاسع والبون كبير، فالأخير يتحرك من خلال دولة، ويأتيه السلاح بكل أنواعه مُحَمَّلًا في شاحنات، أحيانًا تكون تابعه للجيش اللبناني، ويملك بنية عسكرية تحتية لا تملكها بعض الدول، ناهيك عن الدعم السياسي والمعنوي والمخزون الهائل من الخبرات، وفي نفس الوقت ليس مسئولًا عن توفير الطعام والشراب والخدمات للشعب اللبناني، فهناك حكومة تقوم بذلك .
إن سيطرة ( حماس ) على غزة تَحَوَّل إلى مشكلةٍ كبيرة أعقدَ من المشكلة الفلسطينية نفسها، والسبب ليس في المبدأ، ولكن فيما ترتب عليه من أزمات