فيلم "المحلف السابع": سينما الجريمة وعقدة فرنسا- الجزائر

الصيدلي متزوج لكنه يعاني من الوحدة والخوف والعزلة عن طبقته

هناك ولع خاص لدى الفرنسيين بأفلام الجريمة الغامضة، ليس على طريقة هيتشكوك سيد أفلام الإثارة والحبكة، فالإثارة في حد ذاتها ليست هي الدافع وراء إنتاج مثل هذه الأفلام بل شئ أبعد قليلا من الإثارة والغامض، شئ له علاقة بالفلسفة، بفكرة الموت الفجائي، والقتل كهاجس لا يمكن أن يدرك المرء القوة الدافعة وراءه دائما، فقد توجد عوامل داخلية تتفاعل تحت السطح البارد الخارجي ، لا ندري ما كنهها بالضبط.
هذا الولع الفرنسي ليس جديدا بل قديم، منذ ما قبل ظهور "الموجة الجديدة" في السينما في أواخر الخمسينيات، أي منذ أفلام جورج كلوزو وجوليان دوفيفييه.
ولعل من أشهر الأفلام الفرنسية التي تناولت الجريمة على هذا المستوى فيلم "موت في حديقة فرنسية" للمخرج الشهير ميشيل دوفيل، ثم كل أفلام كلود شابرول، أحد رواد الموجة الجديدة، الذي لايزال يخرج الأفلام بانتظام منذ 50 عاما بالتمام والكمال.
في مهرجان روما للدراما شاهدت أحدث الأفلام التي تدور حول الجريمة، وهو الفيلم الفرنسي "المحلف السابع" Le Septieme Jure للمخرج إدوارد نيرمانز عن رواية الكاتب الشهير فرنسيس ديديلو، والذي حصل على جائزة أحسن ممثل في المهرجان.
والغريب أن هذه الرواية اقتبست وتحولت إلى فيلم (سواء للسينما أو للتليفزيون) ثلاث مرات حتى الآن.
المرة الأولى في عام 1962، أي بعد صدورها بعامين اثنين. وهو أيضا عام استقلال الجزائر عن فرنسا رسميا.
وكان الفيلم الأول الذي انتج في تلك السنة من إخراج جورج لوتنيه، وبطولة برنار بلييه ودانييل دي لورم. وكان فيلما بوليسيا من النوع المشوق وإن كان يمتلئ بالظلال والمساحات الغامضة على طريقة أفلام التشويق الأمريكية في الأربعينيات التي أطلق عليها نقاد فرنسا "فيلم نوار" فهي تنشغل ، ليس بالجريمة في حد ذاتها، بل بدواخل القاتل نفسه.
اما الفيلم الثاني فقد انتج عام 1984، وأخرجه جيرار جينو، وقام ببطولته باتريك فيري وجان كلود بريالي وفاني باستيان. لكن هذا الفيلم لم يحقق نجاحا يذكر رغم تميزه في التمثيل. فقد جاء خاويا، سطحيا، يمتلئ بالحوار.

فيلم "المحلف السابع": سينما الجريمة وعقدة فرنسا- الجزائر _44945783_jure2031

يهرب الصيدلي الوحيد أحيانا لكي يلهو بلعب أطفال

اما الفيلم الجديد فيمكن القول بثقة إنه من أفضل ما عرض في مهرجان روما على الإطلاق من أفلام صورت للتليفزيون، إن لم يكن يتفوق عليها جميعها بلا أستثناء.
والسبب في هذا التميز المؤكد يعود إلى العوامل التالية:
اولا: السيناريو المكتوب ببراعة ودقة شديدتين، بحيث يحقق التوازن، والوضوح في تناوله للشخصيات، ويدفع العلاقات فيما بينها بسلاسة وانسابية حتى النهاية، وخاصة الشخصية الرئيسية التي يسوق الفيلم من خلالها أفكاره، الهجائية اللاذعة.
ثانيا: إضفاء قيمة أكبر كثيرا مما في الرواية الأصلية على الفيلم ككل من خلال جعله يقف على قدميه بدلا من رأسه (إذا استخدمنا تعبير كارل ماركس في وصفه لاكتشاف رفيقه المفكر الألماني فريدريك إنجلز للمادية الجدلية).
هنا بدلا من أن يكون المشتبه فيه الذي يُحاكم رجلا من عامة الشعب، يصبح شابا جزائريا يستخدمه السيناريو لكي يكشف من خلاله أزمة الفكر الفرنسي، فكر الطبقة الوسطى وعجزها عن تجاوز أنانيتها ورفضها المطلق لأي اختراق يهز من قشرتها الخارجية، خاصة لو جاء من الخارج، وكان من ذلك "الآخر" الذي لا يرغب أحد في رؤيته أصلا أو الاعتراف حتى بوجوده، أي الجزائري.
ثالثا: سيطرة المخرج المتمكن، إدوار نيرمانز، على شخصياته وعلى الإيقاع العام للفيلم، وطاقم الممثلين جميعا الذين يستخرج منهم اقصى أداء ممكن، بحيث يجعلك كمشاهد لا تستطيع أن تدير وجهك للحظة واحدة، حتى لو كنت تتابع الفيلم من خلال الترجمة المطبوعة على الشريط.
رابعا: الإشارات المتعددة التي يحفل بها النص السينمائي: القسوة الشديدة هي مفتاح ليقظة الضمير عند البطل، ورموز العدالة هم المتواطئين على طمسها، والضحية محكوم عليه مسبقا لأنه "التابع" لا السيد، والطبقة اقوى من الفرد، ولحظة القتل هي نفسها لحظة الاستنارة عند البطل .
الحس العبثي

فيلم "المحلف السابع": سينما الجريمة وعقدة فرنسا- الجزائر _44945781_jure2033

الصيدلي المتزن الرصين "مسيو دوفال" يجد أنه اصبح قاتلا

القاتل هنا (مسيو لافال) يقتل فتاة عابثة رفضت أن تمنحه نفسها في لحظة شبق مفاجئ، أي في لحظة عبثية، هي أقرب إلى اللحظة العبثية التي يقتل فيها بطل رواية "الغريب" لألبير كامي، الرجل الجزائري "لأن الشمس كانت في عينيه" كما قال فيما بعد خلال محاكمته.
إن الصيدلي المتزن الرصين "مسيو دوفال" المتزوج من امرأة تشاركه عمله في الصيدلية في تلك البلدة الفرنسية المنعزلة، وله منها ولد، يجد نفسه فجأة وقد أصبح قاتلا.
إلا أنه يتوجه إلى منزله بعد ذلك دون أي شعور بالذنب أو الاهتزاز. لكن إحساسه بجريمته يبدأ في النمو منذ اللحظة التي يتم فيها تكليفه بالمشاركة في لجنة المحلفين عند نظر القضية التي يتهم فيها شاب جزائري، قبض عليه قرب مكان الجريمة، وثبت أنه كان على علاقة جسدية بالفتاة القتيلة.
دوفال يبذل كل ما يمكنه أثناء المحاكمة للتشكيك في القضية، وفي الدوافع، وفي امكانية أن يكون الجزائري هو مرتكبها. إنه يتحول من المحلف رقم 7 في المحكمة، إلى محام قوي الشكيمة، بل لا يتردد عن الاتصال هاتفيا بمحامي المتهم لكي يقول له ببساطة دون أن يكشف عن هويته بالطبع: "إن موكلك غير مذنب. أنا واثق. لماذا؟ لأنني أنا القاتل".
تصرفات وسلوك دوفال التي تتخذ حالة محمومة تدفعه دفعا إلى بذل كل ما يمكن من أجل انقاذ رقبة المتهم، إلى أن يصبح معلوما للجميع لدى زملائه في نادي النخبة الذي يتردد عليه كل مساء: القاضي ومأمور الشرطة، صديقه الشخصي، ومدير الشركة، والمحامي والطبيب..وغيرهم، أن هناك ما يعرفه دوفال أكثر مما يقوله، لكنه يتوقف على مسافة قصيرة للغاية من البوح به.
غير أن أهل البلدة جميعا بما فيهم نخبتها، لا يبدو أنهم يشغلون أنفسهم بالبحث عن القاتل.. فقد وجدوه بالفعل، وهو قاتل مثالي: ابن المستعمرة التي رفضت أن تظل مستعمرة أو جزءا من فرنسا الأم، أو ذلك "الآخر" الغائب المغيب، الذي لا يصلح إلا للقيام بدور الضحية، وكأننا أمام إحدى تراجيديات المسرح الإغريقي، ولكن بدلا من القدر العاتي الميتافيزيقي الذي ينزل انتقامه، هنا الاتفاق الضمني بين أفراد طبقة واحدة، تجمعهم سيكولوجية مشتركة جماعية وفكر واحد.
وقائع إدانة معلنة

فيلم "المحلف السابع": سينما الجريمة وعقدة فرنسا- الجزائر _44945800_jure2032

جون بيير داروسان حصل على جائزة احسن ممثل

إنها "وقائع إدانة معلنة سلفا" إذا جاز التعبير. لكن القانون هو القانون أيضا. أي أنه عندما يتزايد الشك، وينمو التشكيك بفضل براعة "دوفال" في البحث عن كل الثغرات بل وتحوله إلى استجواب الشهود المزعومين وفضح هشاشة شهاداتهم، تنتهي القضية برفض الدعوى وتبرئة المتهم الجزائري الذي لا يعرف، لماذا فعل دوفال ما فعله. لماذا وقف في وجه كل أبناء جلدته الذين أرادوا إدانته من أول لحظة!
موقف دوفال ليس إنسانيا بالضرورة، أي ليس تعاطف إنساني أو محصلة ليقظة ضمير مفاجئة، فقد سبق أن قتل من قبل ودفن الجثة بمساعدة زوجته في حديقة المنزل، كما تذكره زوجته.
ان الفيلم يتعامل مع هذه النقطة تحديدا دون اللجوء إلى البوح المباشر، بل إنه هنا يخفي أكثر مما يظهر، لكنه يجعلك تصل وحدك إلى المعرفة، وإلى لحظة الاستنارة.
ومن الممكن اعتبار الفيلم بأكمله هجاء قاسيا للبورجوازية الفرنسية: منطقها الزائف وسطحيتها، وعلاقاتها الخارجية الهشة.
إن بطلنا المناقض تماما لفكرة البطل في الدراما الاغريقية (بل في الحقيقة نقيض البطل) لا يدافع هنا عن الجزائري بقدر ما يتمرد على طبقته، بضراوة وتشف، بل وفي لحظة غضب مجنون يحاول قتل زوجته التي ترمز إلى كل ما في هذه الطبقة من زيف وبرودة ورغبة في الحفاظ فقط على المظاهر.
إنه يذهب بنفسه في النهاية لكي يعترف لضابط الشرطة بأنه هو القاتل. فيقول له الضابط ببساطة إنه يعرف، وإن كل البلدة تعرف، ثم يطلب منه بحسم الانصراف والعودة إلى ممارسة حياته دون أن يزعجهم مجددا.
فكرة التمرد الفردي
إن التمرد الفردي على الطبقة لن يتمكن من هزيمة الطبقة أو فكرها. وهذا هو مغزى النهاية. فالقاتل يظل مطلق السراح لأنه يرمز للطبقة، لفرنسا، ولن يقبل أحد أن يتلوث الرمز.
ولعل ما يجعل هذا الفيلم عملا شديد التميز والسحر ذلك الأداء البارز للممثل الفرنسي جون بيير داروسان في دور دوفال. إنه ابن ذلك التراث من التمثيل المسرحي والسينمائي العريق ووريث الممثلين العظام من طراز جان جابان وإيف مونتان وجان كلود بريالي.
إنه يعبر يببساطة وخفوت عن ذلك الشعور برفض ما حوله، رفض منطق طبقته، تدريجيا وبدون أن تبدو عليه الانفعالات الخارجية، إلى أن يتلبسه في النهاية هاجس لا يستطيع أن يرده: أن يكشف ويفضح ويصرخ ويعترف.
فيلم "المحلف السابع" بهذا المعنى عمل من أعمال الفن الكبرى رغم أنه مصور للعرض على شاشة التليفزيون، لكنه أكثر عمقا وامتعاعا من أفلام كثيرة تعرض وتمر بشكل عابر على شاشة السينما.

شكرا لمروركم الكريم
اجدد التحيه
والمحبه
اليكم

فيلم "المحلف السابع": سينما الجريمة وعقدة فرنسا- الجزائر 2f11114cae

» رغم أنه "بطّل السجاير وبقي إنسان جديد" أفلت العجل..ووقع شعبولا "ضحية" مخدرات العيد
» فيلم"كسكسي بالسمك": تماسك إنساني وحب ممزوج بالألم
» فيلم الموسم.. "سرقة الأعضاء والفراغ" حالياً بالأسواق
» مشاهدة فيلم الجريمة المصري شارع 18 اون لاين أفلام أونلاين
» توهان بالمستشفي مصرع "ربة منزل" أثناء الوضع .. والمستشفي سلم الأسرة "جثة طفل" فوق البيعة