50- 1 - مقدمة غزوة فتح مكة:
قال ابن القيم: هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجاً، وأشرق به وجه الأرض ضياءً وابتهاجاً أ.هـ.
50- 2 - سبب الغزوة:
قدمنا في وقعة الحديبية أن بنداً من بنود هذه المعاهدة يفيد أن من أحب أن يدخل في عقد محمد صلَّى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق.
وحسب هذا البند دخلت خزاعة في عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في عهد قريش ، وصارت كل من القبيلتين في أمن من الأخرى، وقد كانت بين القبيلتين عداوة وثارات في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، ووقعت هذه الهدنة، وأمن كل فريق من الآخر اغتنمها بنو بكر ، وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة الثأر القديم، فخرج نوفل بن معاوية الديلي في جماعة من بني بكر في شهر شعبان سنة 8هـ، فأغاروا على خزاعة ليلاً، وهم على ماء يقال له "الوتير " فأصابوا منهم رجالاً، وتناوشوا واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل، حتى حازوا خزاعة على الحرم ، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر : يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم ، إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة: لا إله اليوم يا بني بكر ، أصيبوا ثأركم فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم ، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟
ولما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي، وإلى دار مولى لهم يقال له رافع.
وأسرع عمرو بن سالم الخزاعي، فخرج حتى قدم على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بالمدينة، فوقف عليه، وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال:
يارب إني ناشد محمدا
لفنا وحلف أبيه الأتلدا
قد كنتم ولداً وكنا والدا
مة أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصر، هداك الله، نصراً أيدا
ادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله، قد تجردا
بيض مثل البدر، يسمو صعدا
إن سيم خسفاً وجهه تربدا
ي فيلق كالبحر يجري مزبدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا
نقضوا ميثاقك المؤكدا
وجعلوا لي في كداء رصدا
زعموا أن لست أدعو أحدا
وهم أذل، وأقل عددا
م بيتونا بالوتير هجدا
وقتلونا ركعاً وسجدا
فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: نصرت يا عمرو بن سالم، ثم عرضت له سحابة من السماء فقال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب.
ثم خرج بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة ، حتى قدموا على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم المدينة ، فأخبروه بمن أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم رجعوا إلى مكة .
50- 3 - أبو سفيان يخرج إلى المدينة ليجدد الصلح:
ولا شك أن ما فعلت قريش وحلفاؤها كان غدراً محضاً ونقضاً صريحاً للميثاق لم يكن له أي مبرر، ولذلك سرعان ما أحست قريش بغدرها، وخافت وشعرت بعواقبه الوخيمة، فعقدت مجلساً استشارياً، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلاً لها؛ ليقوم بتجديد الصلح.
وقد أخبر رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أصحابه بما ستفعله قريش إزاء غدرتهم. قال: كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد، ويزيد في المدة.
وخرج أبو سفيان -حسب ما قررته قريش - فلقي بديل بن ورقاء بعسفان -وهو راجع من المدينة إلى مكة - فقال: من أين أقبلت يا بديل؟ -وظن أنه أتى النبي (صلَّى الله عليه وسلم)- فقال: سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن الوادي. قال: أوما جئت محمداً؟ قال: لا.
فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى، فأتى مبرك راحلته، فأخذ من بعرها ففته، فرأى فيها النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً.
وقدم أبو سفيان المدينة ، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) طوته عنه، فقال: يا بنية، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، وأنت رجل مشرك نجس. فقال: والله لقد أصابك بعدي شر.
ثم خرج حتى أتى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال. أأنا أشفع لكم إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به، ثم جاء فدخل على عليّ بن أبي طالب، وعنده فاطمة، وحسن غلام يدب بين يديهما، فقال: يا عليّ إنك أمس القوم بي رحماً، وإني قد جئت في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائباً، اشفع لي إلى محمد، فقال: ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة، فقال: هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم).
وحينئذ أظلمت الدنيا أمام عيني أبي سفيان، فقال لعلي بن أبي طالب في هلع وانزعاج ويأس وقنوط: يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني. قال والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك. ولكنك سيد بني كنانة ، فقم فأجر بين الناس، ثم ألحق بأرضك. قال: أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً؟ قال: لا والله ما أظنه، ولكني لم أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: يا أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره، وانطلق.
ولما قدم على قريش ، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلمته، فوالله ما رد عليّ شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت عمر بن الخطاب، فوجدته أدنى العدو، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم، قد أشار عليّ بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئاً أم لا؟ قالوا: وبمَ أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا فهل أجاز ذلك محمداً؟ قال: لا. قالوا: ويلك، إن زاد الرجل على أن لعب بك. قال: لا والله ما وجدت غير ذلك.
50- 4 - التهيؤ للغزوة ومحاولة الإخفاء:
يؤخذ من رواية الطبراني أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أمر عائشة -قبل أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة أيام - أن تجهزه، ولا يعلم أحد، فدخل عليها أبو بكر ، فقال: يا بنية ما هذا الجهاز؟ قالت: والله ما أدري. فقال: والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول الله صلَّى الله عليه وسلم؟ قالت: والله لا علم لي. وفي صباح الثالثة جاء عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكباً، وارتجز: يارب إني ناشد محمداً.. الأبيات. فعلم الناس بنقض الميثاق، وبعد عمرو جاء بديل ثم أبو سفيان وتأكد عند الناس الخبر، فأمرهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بالجهاز، وأعلمهم أنه سائر إلى مكة . وقال اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها.
وزيادة في الإخفاء والتعمية بعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلم سرية قوامها ثمانية رجال تحت قيادة أبي قتادة بن ربعي إلى بطن أضم فيما بين ذي خشب وذي المروة على ثلاثة برد من المدينة ، في أول شهر رمضان سنة 8 هـ، ليظن الظان أنه صلَّى الله عليه وسلم يتوجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلك الأخبار، وواصلت هذه السرية سيرها، حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم خرج إلى مكة ، فسارت إليه حتى لحقته.
وكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش كتاباً يخبرهم بمسير رسول الله صلَّى الله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جعلاً على أن تبلغه قريشاً، فجعلته في قرون رأسها، ثم خرجت به، وأتى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علياً والمقداد، فقال: انطلقا حتى تأتيا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش ، فانطلقا تعادي بهما خيلهما حتى وجدا المرأة بذلك المكان، فاستنزلاها، وقالا: معك كتاب؟ فقالت: ما معي كتاب، ففتشا رحلها فلم يجدا شيئاً، فقال لها علي: أحلف بالله، ما كذب رسول الله صلَّى الله عليه وسلم ولا كذبنا، والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك. فلما رأت الجد منه قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليهما، فأتيا به رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلَّى الله عليه وسلم حاطباً، فقال: ما هذا ياحاطب؟ فقال: لا تعجل عليّ يا رسول الله، والله إني لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ملصقاً في قريش ، لست من أنفسهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس لي فيهم قرابة يحمونهم، وكان من معك لهم قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي. فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله، وقد نافق، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: إنه قد شهد بدراً، وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فذرفت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.
وهكذا أخذ الله العيون، فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وتهيؤهم للزحف والقتال.
50- 5 - الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة:
ولعشر خلون من شهر رمضان المبارك سنة 8هـ غادر رسول الله صلَّى الله عليه وسلم المدينة متجهاً إلى مكة ، في عشرة آلاف من الصحابة رضي الله عنهم واستخلف على المدينة أبا رهم الغفاري.
ولما كان بالجحفة أو فوق ذلك لقيه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان قد خرج بأهله وعياله مسلماً مهاجراً، ثم لما كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث وابن عمته عبدالله بن أبي أمية، فأعرض عنهما؛ لما كان يلقاه منهما من شدة الأذى والهجو، فقالت له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك. وقال علي لأبي سفيان بن الحارث: ائت رسول الله صلَّى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: قَالُوا {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ } فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولاً. ففعل ذلك أبو سفيان.
فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } فأنشده أبو سفيان أبياتاً منها:
لعمرك إني حين أحمل راية
تغلب خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله
هذا أواني حين أهدى فأهتدي
هداني هاد غير نفسي ودلني
لى الله من طردته كل مطرد
فضرب رسول الله صلَّى الله عليه وسلم صدره وقال: أنت طردتني كل مطرد.
50- 6 - الجيش الإسلامي ينزل بمر الظهران:
وواصل رسول الله صلَّى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى بلغ الكديد -وهو ماء بين عسفان وقديد - فأفطر وأفطر الناس معه، ثم واصل سيره حتى نزل بمر الظهران -وادي فاطمة - نزله عشاء، فأمر الجيش، فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلم على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
50- 7 - أبو سفيان بين يدي رسول الله صلَّى الله عليه وسلم:
وركب العباس -بعد نزول المسلمين بمر الظهران - بغلة رسول الله صلَّى الله عليه وسلم البيضاء، وخرج يلتمس لعله يجد بعض الحطابة أو أحداً يخبر قريشاً؛ ليخرجوا يستأمنون رسول الله صلَّى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها.
وكان الله قد عمى الأخبار عن قريش ، فهم على وجل وترقب، وكان أبو سفيان يخرج يتجسس الأخبار، فكان قد خرج هو وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار.
قال العباس: والله إني لأسير عليها -أي على بغلة رسول الله صلَّى الله عليه وسلم - إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً. قال: يقول بديل: هذه والله خزاعة ، خمشتها الحرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
قال العباس: فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة؟ فعرف صوتي، فقال: أبا الفضل؟ قلت: نعم. قال: مالك؟ فداك أبي وأمي. قلت: هذا رسول الله صلَّى الله عليه وسلم في الناس، وا صباح قريش والله.
قال: فما الحيلة؟ فداك أبي وأمي، قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة، حتى آتي بك رسول الله صلَّى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، فركب خلفي، ورجع صاحباه.
قال: فجئت به، فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين، قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا: عم رسول الله صلَّى الله عليه وسلم على بغلته. حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فقال: من هذا؟ وقام إليّ، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان، عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، وركضت البغلة فسبقت، فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه، قال: قلت: يا رسول الله، إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه الليلة أحد دوني، فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلاً يا عمر، فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا، قال: مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك كان أحب إلي من إسلام الخطاب، لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب.
فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به، فذهبت، فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟ لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئاً بعد.
قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله، قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟ أما هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيئاً. فقال له العباس: ويحك أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، قبل أن تضرب عنقك، فأسلم وشهد شهادة الحق.
قال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً. قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن.
50- 8 - الجيش الإسلامي يغادر مر الظهران إلى مكة:
وفي هذا الصباح -صباح يوم الأربعاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة 8هـ - غادر رسول الله صلَّى الله عليه وسلم مر الظهران إلى مكة ، وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها، ففعل، فمرت القبائل على راياتها، كلما مرت به قبيلة قال: يا عباس من هذه؟ فيقول: -مثلاً - سليم ، فيقول: ما لي ولسليم؟ ثم تمر به القبيلة فيقول: يا عباس من هؤلاء؟ فيقول: مزينة ، فيقول: ما لي ولمزينة؟ حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سأل العباس عنها، فإذا أخبره قال ما لي ولبني فلان؟ حتى مر به رسول الله صلَّى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لايرى منهم إلا الحدق من الحديد، قال: سبحان الله يا عباس من هؤلاء؟ قال: هذا رسول الله صلَّى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة. ثم قال: والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيماً. قال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال: فنعم إذن.
وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر بأبي سفيان قال له اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشاً. فلما حاذى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أبا سفيان قال: يا رسول الله ألم تسمع ما قال سعد؟ قال: وما قال؟ فقال: كذا وكذا. فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله ما نأمن أن يكون له في قريش صولة، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً، ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس، ورأى أن اللواء لم يخرج عن سعد. وقيل: بل دفعه إلى الزبير.
50- 9 - قريش تباغت زحف الجيش الإسلامي:
ولما مر رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال له العباس: النجاء إلى قومك. فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة ، وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش ، هذا محمد، قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأخمش الساقين، قبح من طليعة القوم.
قال أبو سفيان: ويلكم، لا تغريكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، وما تغني عنك دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن. ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، وبثوا أوباشاً لهم، وقالوا: نقدم هؤلاء فإن كان لقريش شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا. فتجمع سفهاء قريش وأخفاؤها مع عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، و سهيل بن عمرو بالخندمة ليقاتلوا المسلمين، وكان فيهم رجل من بني يكبر -حماس بن قيس - كان يعد قبل ذلك سلاحاً، فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أرى؟ قال: لمحمد وأصحابه قالت: والله ما يقوم لمحمد وأصحابه شيء. قال: إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم. ثم قال:
إن يُقْبِلوا اليوم فما لي عَلَّه
ذا سلاح كامل وآله
وذو غرارين سريع السَّلَّه
فكان هذا الرجل فيمن اجتمعوا في الخندمة.
50- 10 - الجيش الإسلامي بذي طوى:
أما رسول الله صلَّى الله عليه وسلم فمضى حتى انتهى إلى ذي طوى -وكان يضع رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى أن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل - وهناك وزع جيشه وكان خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى -وفيها أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب - فأمره أن يدخل مكة من أسفلها، وقال: إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصداً، حتى توافوني على الصفا.
وكان الزبير بن العوام على المجنبة اليسرى، وكان معه راية رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فأمره أن يدخل مكة من أعلاها -من كداء - وأن يغرز رايته بالحجون، ولا يبرح حتى يأتيه.
وكان أبو عبيدة على الرجالة والحسر -وهم الذين لا سلاح معهم - فأمره أن يأخذ بطن الوادي، حتى ينصب لمكة بين يدي رسول الله صلَّى الله عليه وسلم.
الجيش الإسالمى يدخل مكة
50- 12 - الرسول صلَّى الله عليه وسلم يدخل المسجد الحرام ويطهره من الأصنام:
ثم نهض رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم طاف بالبيت، وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ }والأصنام تتساقط على وجوهها.
وكان طوافه على راحلته، ولم يكن محرماً يومئذ، فاقتصر على الطواف، فلما أكمله دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففتحت، فدخلها، فرأى فيها الصور، ورأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام - يستقسمان بالأزلام، فقال: قاتلهم الله، والله ما استقسما بها قط. ورأى في الكعبة حمامة من عيدان، فكسرها بيده، وأمر بالصور فمحيت.
50- 13 - الرسول صلَّى الله عليه وسلم يصلي في الكعبة ثم يخطب أمام قريش:
ثم أغلق عليه الباب، وعلى أسامة وبلال، فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب، حتى إذا كان بينه وبينه ثلاثة أذرع وقف، وحمل عمودين عن يساره، وعموداً عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه -وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة - ثم صلى هناك، ثم دار في البيت، وكبر في نواحيه، ووحّد الله، ثم فتح الباب، وقريش قد ملأت المسجد صفوفاً ينتظرون ماذا يصنع؟ فأخذ بعضادتي الباب، وهم تحته، فقال:
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد -السوط والعصا - ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها.
يا معشر قريش ، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }.
50- 14 - لا تثريب عليكم اليوم:
ثم قال: يا معشر قريش ، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْم َ} اذهبوا فأنتم الطلقاء.
50- 15 - مفتاح البيت إلى أهله:
ثم جلس رسول الله صلَّى الله عليه وسلم في المسجد، فقام إليه عليّ رضي الله عنه، ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية، صلى الله عليك، وفي رواية: أن الذي قال ذلك هو العباس، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فدعي له، فقال له: هاك مفتاحك يا عثمان، يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء، وفي رواية ابن سعد في الطبقات أنه قال حين دفع المفتاح إليه: خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان، إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف.
50- 16 - بلال يؤذن على الكعبة:
وحانت الصلاة، فأمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بلالاً أن يصعد فيؤذن على الكعبة، وأبو سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيداً أن لا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه، فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته، فقال أبو سفيان: أما والله لا أقول شيئاً، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء، فخرج عليهم النبي صلَّى الله عليه وسلم فقال لهم: قد علمت الذي قلتم، ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد معنا فنقول: أخبرك.
50- 17 - صلاة الفتح أو صلاة الشكر:
ودخل رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يومئذ دار أم هانئ بنت أبي طالب، فاغتسل وصلى ثماني ركعات في بيتها، وكان ضحى، فظنها من ظنها صلاة الضحى وإنما هذه صلاة الفتح، وأجارت أم هانئ حموين لها، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ، وقد كان أخوها علي بن أبي طالب أراد أن يقتلهما، فأغلقت عليهما باب بيتها، وسألت النبي صلَّى الله عليه وسلم، فقال لها ذلك.
50- 18 - إهدار دماء رجال من أكابر المجرمين:
وأهدر رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) يومئذ دماء تسعة نفر من أكابر المجرمين، وأمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وهم عبد العزى بن خطل، وعبدالله بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن نفيل بن وهب ومقيس بن صبابة، وهبار بن الأسود، وقينتان كانتا لابن خطل، كانتا تغنيان بهجو النبي (صلَّى الله عليه وسلم)، وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب، وهي التي وجد معها كتاب حاطب.
فأما ابن أبي سرح، فجاء به عثمان إلى النبي (صلَّى الله عليه وسلم)، وشفع فيه فحقن دمه، وقبل إسلامه بعد أن أمسك عنه، رجاء أن يقوم إليه بعض الصحابة فيقتله، وكان قد أسلم قبل ذلك وهاجر، ثم ارتد ورجع إلى مكة .
وأما عكرمة بن أبي جهل ففر إلى اليمن ، فاستأمنت له امرأته، فأمنه النبي (صلَّى الله عليه وسلم) فتبعته، فرجع معها وأسلم، وحسن إسلامه.
وأما ابن خطل فكان متعلقاً بأستار الكعبة، فجاءه رجل إلى النبي (صلَّى الله عليه وسلم) وأخبره فقال: اقتله. فقتله.
وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبدالله، وكان مقيس قد أسلم قبل ذلك، ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله، ثم ارتد ولحق بالمشركين.
وأما الحارث فكان شديد الأذى لرسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) بمكة، فقتله عليّ.
وأما هبار بن الأسود فهو الذي كان قد عرض لزينب بنت رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) حين هاجرت، فنخس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها، ففر هبار يوم مكة ، ثم أسلم وحسن إسلامه.
وأما القينتان فقتلت إحداهما، واستؤمن للأخرى، فأسلمت، كما استؤمن لسارة وأسلمت.
قال ابن حجر: وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلاطل الخزاعي، فقتله علي، وذكر الحاكم أيضاً ممن أهدر دمه كعب بن زهير، وقصته مشهورة وقد جاء بعد ذلك، وأسلم ومدح، ووحش بن حرب، وهند بنت عتبة وقد أسلمت، وأرنب مولاة ابن خطل أيضاً قتلت، وأم سعد، قتلت فيما ذكر ابن إسحاق، فكملت العدة ثمانية رجال وست نسوة، ويحتمل أن تكون أرنب وأم سعد القينتان، اختلف في اسمهما، أو باعتبار الكنية واللقب.
50- 19 - إسلام صفوان بن أمية، وفضالة بن عمير:
لم يكن صفوان ممن أهدر دمه، لكنه بصفته زعيماً كبيراً من زعماء قريش خاف على نفسه وفر، فاستأمن له عمير بن وهب الجمحي رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) فأمّنه، وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة ، فلحقه عمير وهو يريد أن يركب البحر من جدة إلى اليمن فردّه، فقال لرسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): اجعلني بالخيار شهرين. قال: أنت بالخيار أربعة أشهر. ثم أسلم صفوان، وقد كانت امرأته أسلمت قبله، فأقرهما على النكاح الأول.
وكان فضالة رجلاً جريئاً جاء إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، وهو في الطواف، ليقتله فأخبره الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) بما في نفسه فأسلم.
50- 20 - خطبة الرسول صلَّى الله عليه وسلم في اليوم الثاني من الفتح:
ولما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله صلَّى الله عليه وسلم في الناس خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً، أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما حلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب.
وفي رواية: لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط ساقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه، فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر، فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال: إلا الإذخر.
وكانت خزاعة قتلت يومئذ رجلاً من بني ليث بقتيل لهم في الجاهلية، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بهذا الصدد: يا معشر خزاعة ، ارفعوا أيديكم عن القتل فلقد كثر القتل إن نفع، لقد قتلتم قتيلاً لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاءوا فدم قاتله، وإن شاءوا فعقله.
وفي رواية: فقام رجل من أهل اليمن يقال له "أبو شاه " فقال: "اكتب لي يا رسول الله "، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: اكتبوا لأبي شاه.
50- 21 - تخوف الأنصار من بقاء الرسول صلَّى الله عليه وسلم في مكة:
ولما تم فتح مكة على الرسول صلَّى الله عليه وسلم -وهي بلده ووطنه ومولده - قال الأنصار فيما بينهم: أترون رسول الله صلَّى الله عليه وسلم إذا فتح الله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها -وهو يدعو على الصفا رافعاً يديه - فلما فرغ من دعائه قال: ماذا قلتم؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: معاذ الله المحيا محياكم، والممات مماتكم.
50- 22 - أخذ البيعة:
وحين فتح الله مكة على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم والمسلمين تبين لأهل مكة الحق، وعلموا أن لا سبيل إلى النجاح إلا الإسلام، فأذعنوا له، واجتمعوا للبيعة، فجلس رسول الله صلَّى الله عليه وسلم على الصفا يبايع الناس، وعمر بن الخطاب أسفل منه، يأخذ على الناس، فبايعوه على السمع والطاعة فيما استطاعوا.
وفي المدارك: روى أن النبي صلَّى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا، وعمر قاعد أسفل منه، يبايعهن بأمره، ويبلغهن عنه، فجاءت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنكرة خوفاً من رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أن يعرفها، لما صنعت بحمزة، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً، فبايع عمر النساء على أن لا يشركن بالله شيئاً. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: ولا تسرقن. فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح، فإن أنا أصبت من ماله هنات؟ فقال أبو سفيان: وما أصبت فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وعرفها، فقال: وإنك لهند؟ قالت: نعم، فاعف عما سلف يا نبي الله، عفا الله عنك.
فقال: ولا يزنين. فقالت: أو تزني الحرة؟ فقال: ولا يقتلن أولادهن. فقالت: ربيناهم صغاراً، وقتلتموهم كباراً، فأنتم وهم أعلم -وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر - فضحك عمر حتى استلقى، فتبسم رسول الله صلَّى الله عليه وسلم.
فقال: ولا يأتين ببهتان. فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: ولا يعصينك في معروف. فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك.
ولما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول: كنا منك في غرور.
50- 23 - إقامته صلَّى الله عليه وسلم بمكة وعمله فيها:
وأقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوماً، يجدد معالم الإسلام، ويرشد الناس إلى الهدى والتقى، وخلال هذه الأيام أمر أبا أسيد الخزاعي، فجدد أنصاب الحرم ، وبث سراياه للدعوة إلى الإسلام، ولكسر الأوثان التي كانت حول مكة ، فكسرت كلها، ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلا كسره.
51 - السرايا والبعوث
1- ولما اطمأن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بعد الفتح بعث خالد بن الوليد إلى العزى، لخمس ليال بقين من شهر رمضان (سنة 8هـ ) ليهدمها، وكانت بنخلة، وكانت لقريش وجميع بني كنانة ، وهي أعظم أصنامهم، وكان سدنتها بني شيبان ، فخرج إليها خالد في ثلاثين فارساً حتى انتهى إليها، فهدمها، ولما رجع سأله رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: هل رأيت شيئاً؟ قال: لا. قال: فإنك لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها، فرجع خالد متغيظاً قد جرد سيفه، فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ناشزة الرأس، فجعل السادن يصيح بها، فضربها خالد فجزلها باثنتين، ثم رجع إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: نعم، تلك العزى، وقد أيست أن تعبد في بلادكم أبداً.
2- ثم بعث عمرو بن العاص في نفس الشهر إلى سواع ليهدمه، وهو صنم لهذيل برهاط، وعلى ثلاثة أميال من مكة ، فلما انتهى إليه عمرو قال له السادن: ما تريد؟ قال: أمرني رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك، قال: لم؟ قال: تمنع. قال: حتى الآن أنت على الباطل؟ ويحك، فهل يسمع أو يبصر؟ ثم دنا فكسره، وأمر أصحابه فهدموا بيت خزانته، فلم يجدوا فيه شيئاً، ثم قال للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله.
3-وفي نفس الشهر بعث سعد بن زيد الأشهلي في عشرين فارساً إلى مناة، وكانت بالمشلل عند قديد للأوس والخزرج وغسان وغيرهم، فلما انتهى سعد إليها قال له سادتها: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبل إليها سعد، وخرجت امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل، وتضرب صدرها، فقال لها السادن: مناة دونك بعض عصاتك، فضربها سعد فقتلها، وأقبل إلى الصنم فهدمه وكسره، ولم يجدوا في خزانته شيئاً.
4-ولما رجع خالد بن الوليد من هدم العزى بعثه رسول الله صلَّى الله عليه وسلم في شعبان من نفس السنة
(8هـ) إلى بني جذيمة، داعياً إلى الإسلام، لا مقاتلاً. فخرج في ثلاثمائة وخمسين رجلاً من المهاجرين والأنصار وبني سليم ، فانتهى إليهم، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون "صبأنا صبأنا "، فجعل خالد يقتلهم ويأسرهم، ودفع إلى كل رجل ممن كان معه أسيراً، فأمر يوماً أن يقتل كل رجل أسيره، فأبى ابن عمر وأصحابه حتى قدموا على النبي صلَّى الله عليه وسلم فذكروا له، فرفع صلَّى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد -مرتين -.
وكانت بنو سليم هم الذين قتلوا أسراهم دون المهاجرين والأنصار، وبعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلم علياً فودى لهم قتلاهم وما ذهب منهم، وكان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف كلام وشر في ذلك، فبلغ صلَّى الله عليه وسلم فقال: مهلاً يا خالد، دع عنك أصحابي، فوالله لو كان أحدٌ ذهباً، ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته.
تلك هي غزوة فتح مكة ، وهي المعركة الفاصلة والفتح الأعظم الذي قضى على كيان الوثنية قضاء باتاً، لم يترك لبقائها مجالاً ولا مبرراً في ربوع الجزيرة العربية، فقد كانت عامة القبائل تنتظر ماذا يتمخض عنه العراك والاصطدام الذي كان دائراً بين المسلمين والوثنيين، وكانت تلك القبائل تعرف جيداً أن الحرم لا يسيطر عليه إلا من كان على الحق، وكان قد تأكد لديهم هذا الاعتقاد الجازم أي تأكد قبل نصف القرن حين قصد أصحاب الفيل هذا البيت، فأهلكوا وجعلوا كعصف مأكول.
وكان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم، أمن الناس به وكلم بعضهم بعضاً، وناظره في الإسلام، وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه والدعوة إليه والمناظرة عليه، ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام، حتى إن عدد الجيش الإسلامي الذي لم يزد في الغزوات السابقة على ثلاثة آلاف إذا هو يزخر في هذه الغزوة في عشرة آلاف.
وهذه الغزوة الفاصلة فتحت أعين الناس، و أزالت عنها آخر الستور التي كانت تحول بينها وبين الإسلام. وبهذا الفتح سيطر المسلمون على الموقف السياسي والديني كليهما معاً في طول الجزيرة العربية وعرضها، فقد انتقلت إليهم الصدارة الدينية والزعامة الدنيوية.
فالطور الذي كان قد بدأ بعد هدنة الحديبية لصالح المسلمين قد تم، وكمل بهذا الفتح المبين، وبدأ بعد ذلك طور آخر كان لصالح المسلمين تماماً، وكان لهم فيه السيطرة على الموقف تماماً، ولم يبق لأقوام العرب إلا أن يفدوا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فيعتنقوا الإسلام، ويحملوا دعوته إلى العالم، وقد تم استعدادهم لذلك في سنتين آتيتين.
52 - المرحلة الثالثة
وهي آخر مرحلة من مراحل حياة الرسول صلَّى الله عليه وسلم، تمثل النتائج التي أثمرتها دعوته الإسلامية بعد جهاد طويل وعناء ومتاعب وقلاقل وفتن واضطرابات ومعارك وحروب دامية، واجهتها طيلة بضعة وعشرين عاماً.
وكان فتح مكة هو أخطر مكسب حصل عليه المسلمون في هذه الأعوام، تغير لأجله مجرى الأيام، وتحول به جو العرب، فقد كان الفتح حداً فاصلاً بين المدة السابقة عليه وبين ما بعده، فإن قريشاً كانت في نظر العرب حماة الدين وأنصاره، والعرب في ذلك تبع لهم، فخضوع قريش يعتبر القضاء الأخير على الدين الوثني في جزيرة العرب.
ويمكن أن نقسم هذه المرحلة إلى صفحتين:
1- صفحة المجاهدة والقتال.
2- صفحة تسابق الشعوب والقبائل إلى اعتناق الإسلام.
وهاتان الصفحتان متلاصقتان تناوبتا في هذه المرحلة، ووقعت كل واحدة منهما خلال الأخرى
إلا أنا اخترنا الترتيب الوضعي، أن نأتي على ذكر كل من الصفحتين متميزة عن الأخرى، ونظراً إلى أن صفحة القتال ألصق بما مضى، وأكثر مناسبة من الأخرى قدمناها في الترتيب.
53- 1 - مقدمة غزوة حنين:
إن فتح مكة جاء عقب ضربة خاطفة شده لها العرب، وبوغتت القبائل المجاورة بالأمر الواقع، الذي لم يكن يمكن لها أن تدفعه، ولذلك لم تمتنع عن الاستسلام إلا بعض القبائل الشرسة القوية المتغطرسة، وفي مقدمتها بطون هوازن وثقيف، واجتمعت إليها نصر وجشم وسعد بن بكر وناس من بني هلال -وكلها من قيس عيلان - رأت هذه البطون من نفسها عزاً وأنفة أن تقابل هذا الانتصار بالخضوع، فاجتمعت إلى مالك بن عوف النصري، وقررت المسير إلى حرب المسلمين.
53- 2 - مسير العدو ونزوله بأوطاس:
ولما أجمع القائد العام -مالك بن عوف - المسير إلى حرب المسلمين ساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فسار حتى نزل بأوطاس -وهو واد في دار هوازن بالقرب من حنين، لكن وادي أوطاس غير وادي حنين، وحنين واد إلى جنب ذي المجاز، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً من جهة عرفات -.
53- 3 - مجرب الحروب يغلط رأي القائد:
ولما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس، وفيهم دريد بن الصمة-وهو شيخ كبير، ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب، وكان شجاعاً مجرباً - قال دريد: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس، مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصبي، وثغاء الشاء؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم، فدعا مالكاً وسأله عما حمله على ذلك، فقال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، فقال: راعي ضأن والله، وهل يرد المنهزم شيئ؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ثم سأل عن بعض البطون والرؤساء، ثم قال: يا مالك إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم، ثم ألق الصباة على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك.
ولكن مالكاً القائد العام رفض هذا الطلب قائلاً: والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك، والله لتطيعني هوازن أو لأتكأن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي، فقالوا: أطعناك. فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني:
يا ليتني فيها جذع
خب فيها وأضع
أقود وطفاء الدمع
أنها شاة صدع
53- 4 - سلاح استكشاف العدو:
وجاءت إلى مالك عيون كان قد بعثهم للاستكشاف عن المسلمين، جاءت هذه العيون وقد تفرقت أوصالهم. قال: ويلكم، ما شأنكم؟ قالو: رأينا رجالاً بيضاً على خيل بلق، والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى.
53- 5 - سلاح استكشاف رسول الله صلَّى الله عليه وسلم:
ونقلت الأخبار إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بمسير العدو، فبعث أبا حدرد الأسلمي، وأمره أن يدخل في الناس، فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، ففعل.
53- 6 - الرسول صلَّى الله عليه وسلم يغادر مكة إلى حنين:
وفي يوم السبت -السادس من شهر شوال سنة 8هـ - غادر رسول الله صلَّى الله عليه وسلم مكة -وكان ذلك اليوم التاسع عشر من يوم دخوله مكة - خرج في اثني عشر ألفاً من المسلمين، عشرة آلاف ممن كانوا خرجوا معه لفتح مكة ، وألفان من أهل مكة ، وأكثرهم حديثو عهد بالإسلام، واستعار من صفوان بن أمية مائة درع بأداتها، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد.
ولما كان عشية جاء فارس، فقال: إني طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم، فتبسم رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وقال: تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله، وتطوع للحراسة تلك الليلة أنس بن أبي مرثد الغنوي.
وفي طريقهم إلى حنين رأوا سدرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط، كانت العرب تعلق عليها أسلحتهم، ويذبحون عندها ويعكفون، فقال بعض أهل الجيش لرسول الله صلَّى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال: الله أكبر، قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون، إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم.
وقد كان بعضهم قال نظرا إلى كثرة الجيش: لن نغلب اليوم، وكان قد شق ذلك على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم.
الجيش الإسلامى يباغت الرماة
53- 8 - رجوع المسلمين واحتدام المعركة:
وأمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلم عمه العباس -وكان جهير الصوت - أن ينادي الصحابة قال العباس: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك، يا لبيك. ويذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر عليه، فيأخذ درعه، فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، فيؤم الصوت، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس واقتتلوا.
وصرفت الدعوة إلى الأنصار، يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة في بني الحارث بن الخزرج ، وتلاحقت كتائب المسلمين واحدة تلو الأخرى كما كانوا تركوا الموقعة. وتجالد الفريقان مجالدة شديدة، ونظر رسول الله صلَّى الله عليه وسلم إلى ساحة القتال، وقد استحر واحتدم، فقال: "الآن حمي الوطيس". ثم أخذ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم قبضة من تراب الأرض، فرمى بها في وجوه القوم وقال: شاهت الوجوه، فما خلق الله إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً من تلك القبضة، فلم يزل حدهم كليلاً وأمرهم مدبراً