13- 2 - ميثاق الظلم والعدوان:
اجتمعوا في خيف بني كنانة من وادي المحصب فتحالفوا، على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهود ومواثيق أن لا يقبلوا من بني هاشم صلحاً أبداً، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل، قال ابن القيم: يقال: كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم، ويقال: نضر بن الحارث، والصحيح أنه بغيض بن عامر بن هاشم، فدعا عليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلم فشلت يده.
تم هذا الميثاق، وعلقت الصحيفة في جوف الكعبة، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم -إلا أبا لهب - وحبسوا في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة.
13- 3 - ثلاثة أعوام في شعب أبي طالب:
واشتد الحصار، وقطعت عنهم الميرة والمادة، فلم يكن المشركون يتركون طعاماً يدخل مكة ولا بيعاً إلا بادروه فاشتروه، حتى بلغهم الجهد والتجأوا إلى أكل الأوراق والجلود، وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع، وكان لا يصل إليهم شيئ إلا سراً -وكانوا - لا يخرجون من الشعب لاشتراء الحوائج إلا في الأشهر الحرم ، وكانوا يشترون من العير التي ترد مكة من خارجها، ولكن أهل مكة كانوا يزيدون عليهم في السلعة قيمتها حتى لا يستطيعوا الاشتراء.
وكان حكيم بن حزام ربما يحمل قمحاً إلى عمته خديجة -رضي الله عنها - وقد تعرض له مرة أبو جهل فتعلق به ليمنعه، فتدخل بينهما أبو البخترى، ومكنه من حمل القمح إلى عمته.
وكان أبو طالب يخاف على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فكان إذا أخذ الناس مضاجعهم يأمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أن يضطجع على فراشه، حتى يرى ذلك من أراد اغتياله، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، وأمره أن يأتي بعض فرشهم.
وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلم والمسلمون يخرجون في أيام الموسم، فيلقون الناس، ويدعونهم إلى الإسلام، وقد أسلفنا ما كان يأتي به أبو لهب.
13- 4 - نقض صحيفة الميثاق:
مرت ثلاثة أعوام كاملة والأمر على ذلك، وفي المحرم سنة عشر من النبوة حدث نقض الصحيفة وفك الميثاق، وذلك أن قريشاً كانوا بين راض بهذا الميثاق وكاره له، فسعى في نقض الصحيفة من كان كارهاً لها.
وكان القائم بذلك هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي -وكان يصل بني هاشم في الشعب مستخفياً بالليل بالطعام - فإنه ذهب به إلى زهير بن أبي أمية المخزومي -وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب - وقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام، وتشرب الشراب، وأخوالك بحيث تعلم؟ فقال: ويحك، فما أصنع وأنا رجل واحد؟ أما والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، قال: قد وجدت رجلاً، قال: فمن هو؟ قال: أنا. قال له زهير: ابغنا رجلاً ثالثاً.
فذهب إلى المطعم بن عدي، فذكره أرحام بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف، ولامه على موافقته لقريش على هذا الظلم، فقال المطعم: ويحك، ماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانياً، قال من هو؟ قال: أنا قال: ابغنا ثالثاً، قال قد فعلت. قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابغنا رابعاً.
فذهب إلى أبي البخترى بن هشام، فقال له نحواً مما قال للمطعم، فقال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم. قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا معك، قال: ابغنا خامساً.
فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد ، فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم ثم سمى له القوم، فاجتمعوا عند الحجون ، وتعاقدوا على القيام بنقض الصحيفة، وقال زهير: أنا أبدأكم فأكون أول من يتكلم.
فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير عليه حلة، فطاف بالبيت سبعاً، ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، لا يباع ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
قال أبو جهل -وكان في ناحية المسجد -:كذبت، والله لا تشق. فقال: زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب. ما رضينا كتابتها حيث كتبت. قال أبو البخترى: صدق زمعة، لا نرضى ماكتب فيها ولا نقر بها.
قال المطعم بن عدي:صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها.
وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك.
فقال أبو جهل، هذا أمر قضي بليل، تشاوروا فيه بغير هذا المكان.
وأبو طالب جالس في ناحية المسجد، إنما جاءهم لأن الله كان قد اطلع رسوله على أمر الصحيفة، وأنه أرسل عليها الأرضة، فأكلت جميع ما فيها من جوى وقطيعة وظلم إلا ذكر الله عز وجل، فأخبر بذلك عمه، فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ابن أخيه قد قال كذا وكذا، فإن كان كاذباً خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقاً رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، قالوا: قد أنصفت. وبعد أن دار الكلام بين القوم وبين أبي جهل، قام المطعم إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا "باسمك اللهم". وما كان فيها من اسم الله فإنها لم تأكله.
تم نقض الصحيفة، وخرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب، وقد رأى المشركون آية عظيمة من آيات نبوته، ولكنهم كما أخبر الله عنهم: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } أعرضوا عن هذه الآية وازدادوا كفراً إلى كفرهم.
14 - آخر وفد قريش إلى أبي طالب
خرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلم من الشعب، وجعل يعمل على شاكلته، وقريش وإن كانوا قد تركوا القطيعة، لكنهم لم يزالوا عاملين على شاكلتهم من الضغط على المسلمين، والصد عن سبيل الله، أما أبو طالب فهو لم يزل يحوط ابن أخيه، لكنه كان قد جاوز الثمانين من سنه، وكانت الآلام والحوادث الضخمة المتوالية منذ سنوات -لا سيما حصار الشعب - قد وهنت وضعفت مفاصله، وكسرت صلبه، فلم يمض على خروجه من الشعب إلا أشهر معدودات، وإذا هو يلاحقه المرض ويلح به -وحينئذ خاف المشركون سوء سمعتهم في العرب إن أتوا بعد وفاته بمنكر على ابن أخيه، فحاولوا مرة أخرى أن يفاوضوا النبي صلَّى الله عليه وسلم بين يديه، ويعطوا بعض ما لم يرضوا إعطاءه قبل ذلك، فقاموا بوفادة هي آخر وفادتهم إلى أبي طالب.
قال ابن إسحاق وغيره: لما اشتكى أبو طالب، وبلغ قريشاً ثقله، قالت قريش بعضها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب، فليأخذ على ابن أخيه، وليعطه منا، والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا، وفي لفظ: فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ، فيكون إليه شيء فتعيرنا العرب، يقولون تركوه؛ حتى إذا مات عمه تناولوه.
مشوا إلى أبي طالب فكلموه، وهم أشراف قومه؛ عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، في رجال من أشرافهم -وهم خمسة وعشرون تقريباً - فقالوا: يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما نرى، وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه، فخذ له منا، وخذ لنا منه، ليكف عنا ونكف عنه، وليدعنا وديننا، وندعه ودينه، فبعث إليه أبو طالب، فجاءه، فقال:ياابن أخي، هؤلاء أشراف قومك، قد اجتمعوا لك، ليعطوك، ويأخذوا منك، ثم أخبره بالذي قالوا له وعرضوا عليه، من عدم تعرض كل فريق للآخر. فقال لهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلم:أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم بها، ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم، وفي لفظ أنه قال مخاطباً لأبي طالب: أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية، وفي لفظ آخر قال: يا عم، أفلا تدعوهم إلى ما هو خير لهم؟ قال: وإلى ما تدعوهم؟ قال: أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم، ولفظ رواية ابن إسحاق: كلمة واحدة تعطونها، تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، فلما قال هذه المقالة، توقفوا وتحيروا، ولم يعرفوا كيف يرفضون هذه الكلمة الواحدة النافعة إلى هذه الغاية والحد؛ ثم قال أبو جهل: ما هي؟ وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها، قال: تقولون :لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه. فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ إن أمرك لعجب.
ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم، حتى يحكم الله بينكم وبينه. ثم تفرقوا.
وفي هؤلاء نزل قوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ. كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ. وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ. وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ. مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاق ٌ}.
عام الحزن
15- 1 - وفاة أبي طالب:
ألح المرض بأبي طالب، فلم يلبث أن وافته المنية، وكانت وفاته في رجب سنة عشر من النبوة، بعد الخروج من الشعب بستة أشهر. وقيل توفي في رمضان قبل وفاة خديجة رضي الله عنها بثلاثة أيام.
وفي الصحيح عن المسيب: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلَّى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، فقال: أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية: يا أبا طالب، ترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلَّى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك مالم أنه عنك، فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيم ِ}ونزلت {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت َ}.
ولا حاجة إلى بيان ما كان عليه أبو طالب من الحياطة والمنع، فقد كان الحصن الذي تحتمي به الدعوة الإسلامية من هجمات الكبراء والسفهاء، ولكنه بقي على ملة الأشياخ من أجداده، فلم يفلح كل الفلاح. ففي الصحيح عن العباس بن عبد المطلب، قال للنبي صلَّى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار.
وعن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلَّى الله عليه وسلم -وذكر عنده عمه - فقال: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار تبلغ كعبيه.
15- 2 - خديجة إلى رحمة الله:
وبعد وفاة أبي طالب بنحو شهرين أو بثلاثة -على اختلاف القولين - توفيت أم المؤمنين خديجة الكبرى رضي الله عنها، كانت وفاتها في شهر رمضان في السنة العاشرة من النبوة، ولها خمس وستون سنة، ورسول الله صلَّى الله عليه وسلم إذ ذاك في الخمسين من عمره.
إن خديجة كانت من نعم الله الجليلة على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، بقيت معه ربع قرن تحن عليه ساعة قلقه، وتؤازره في أحرج أوقاته، وتعينه على إبلاغ رسالته، وتشاركه في مغارم الجهاد المر ، وتواسيه بنفسها ومالها، يقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: "آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها، وحرم ولد غيرها ".
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال:أتى جبريل النبي صلَّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله صلَّى الله عليه وسلم هذه خديجة، قد أتت، معها إنا في إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
15- 3 - تراكم الأحزان:
وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيام معدودة، فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، ثم لم تزل تتوالى عليه المصائب من قومه، فقد كانوا تجرأوا عليه، وكاشفوه بالنكال والأذى بعد موت أبي طالب، فازداد غماً على غم، حتى يئس منهم، وخرج إلى الطائف ، رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يؤووه وينصروه على قومه، فلم ير من يؤوي ولم ير ناصراً، وآذوه مع ذلك أشد الأذى، ونالوا منه ما لم ينله قومه.
وكما اشتدت وطأة أهل مكة على النبي صلَّى الله عليه وسلم، اشتدت على أصحابه، حتى التجأ رفيقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى الهجرة عن مكة ، فخرج حتى بلغ برك الغماد، يريد الحبشة ، فأرجعه ابن الدغنة في جواره.
قال ابن إسحاق: لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلَّى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش ، فنثر على رأسه تراباً، ودخل بيته، والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله صلَّى الله عليه وسلم يقول لها: لا تبكي يابنية، فإن الله مانع أباك. قال: ويقول بين ذلك: ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب.
ولأجل توالي مثل هذه الآلام في هذا العام سماه رسول الله صلَّى الله عليه وسلم عام الحزن، وبهذا اللقب صار معروفاً في التاريخ.
15- 4 - الزواج بسودة رضي الله عنها:
وفي شوال من هذه السنة -سنة 10 من النبوة - تزوج رسول الله صلَّى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة، كانت ممن أسلم قديماً، وهاجرت الهجرة الثانية إلى الحبشة ، وكان زوجها السكران بن عمرو، وكان قد أسلم وهاجر معها، فمات بأرض الحبشة ، أو بعد الرجوع إلى مكة ، فلما حلت خطبها رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وتزوجها، وكانت أول امرأة تزوجها بعد وفاة خديجة، وبعد عدة أعوام وهبت نوبتها لعائشة.
16 - عوامل الصبر والثبات
وهنا يقف الحليم حيران، ويتساءل عقلاء الرجال فيما بينهم: ما هي الأسباب والعوامل التي بلغت بالمسلمين إلى هذه الغاية القصوى، والحد المعجز من الثبات؟ كيف صبروا على هذه الاضطهادات التي تقشعر لسماعها الجلود، وترجف لها الأفئدة؟ ونظراً إلى هذا الذي يتخالج القلوب، نرى أن نشير إلى بعض هذه العوامل والأسباب إشارة عابرة بسيطة:
1- إن السبب الرئيسي في ذلك أولاً وبالذات هو الإيمان بالله وحده ومعرفته حق المعرفة، فالإيمان الجازم إذا خالطت بشاشته القلوب يزن الجبال ولا يطيش، وإن صاحب هذا الإيمان المحكم وهذا اليقين المحكم وهذا اليقين الجازم يرى متاعب الدنيا مهما كثرت وكبرت وتفاقمت واشتدت -يراها في جنب إيمانه - طحالب عائمة فوق سيل جارف جاء ليكسر السدود المنيعة والقلاع الحصينة، فلا يبالي بشيء من تلك المتاعب، أمام ما يجده من حلاوة إيمانه وطراوة إذعانه وبشاشة يقينه {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض ِ}.
ويتفرع من هذا السبب الوحيد أسباب أخرى تقوي هذا الثبات والمصابرة و هي:
2- قيادة تهوي إليها الأفئدة، فقد كان النبي صلَّى الله عليه وسلم -وهو القائد الأعلى للأمة الإسلامية بل والبشرية جمعاء - يتمتع من جمال الخلق وكمال النفس، ومكارم الأخلاق، والشيم النبيلة والشمائل الكريمة، بما تتجاذب إليه القلوب، وتتفانى دونه النفوس، وكانت أنصبته من الكمال الذي يعشق لم يرزق بمثلها بشر، وكان على أعلى قمة من الشرف والنبل والخير والفضل، وكان من العفة والأمانة والصدق، ومن جميع سبل الخير على ما لم يتمار ولم يشك فيه أعداؤه فضلاً عن محبيه ورفقائه، لا تصدر منه كلمة إلا ويستيقنون صدقها.
اجتمع ثلاثة من نفر من قريش ، كان قد استمع كل واحد منهم إلى القرآن سراً عن صاحبيه ثم انكشف سرهم، فسأل أحدهم أبا جهل -وكان من أولئك الثلاثة - ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: لنا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه.
وكان أبو جهل يقول: يا محمد إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }.
وغمزه الكفار يوماً ثلاث مرات، فقال في الثالثة: يا معشر قريش ، جئتكم بالذبح، فأخذتهم تلك الكلمة، حتى إن أشدهم عداوة يرفؤه بأحسن ما يجد عنده.
ولما ألقوا عليه سلا جزور وهو ساجد دعا عليهم، فذهب عنهم الضحك، وساورهم الهم والقلق، وأيقنوا أنهم هالكون.
ودعا على عتيبة بن أبي لهب فلم يزل على يقين من لقاء ما دعا به عليه، حتى إنه حين رأى الأسد قال: قتلني والله -محمد - وهو بمكة.
وكان أبي بن خلف يتوعده بالقتل. فقال: بل أنا أقتلك إن شاء الله، فلما طعن أبياً في عنقه يوم أحد -وكان خدشاً غير كبير - كان أبيّ يقول: إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك. فوالله لو بصق علي لقتلني- وسيأتي.
وقال سعد بن معاذ -وهو بمكة - لأمية بن خلف: لقد سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يقول: إنهم -أي المسلمين - قاتلوك، ففزع فزعاً شديداً، وعهد أن لا يخرج عن مكة ، ولما ألجأه أبو جهل للخروج يوم بدر اشترى أجود بعير بمكة ليمكنه من الفرار، وقالت له امرأته: يا أبا صفوان، وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: لا والله ما أريد أن أجوز معهم إلا قريباً.
وهكذا كان حال أعدائه صلَّى الله عليه وسلم، أما أصحابه ورفقاؤه فقد حل منهم محل الروح والنفس، وشغل منهم مكان القلب والعين، فكان الحب الصادق يندفع إليه اندفاع الماء إلى الجذور، وكانت النفوس تنجذب إليه انجذاب الحديد إلى المغناطيس.
فصورته هيولى كل جسم
مغناطيس أفئدة الرجال
وكان من أثر هذا الحب والتفاني أنهم كانوا ليرضون أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر أو يشاك شوكة.
وطئ أبو بكر بن أبي قحافة يوماً مكة ، وضرب ضرباً شديداً، دنا منه عتبة بن ربيعة ، فجعل يضربه بنعلين مخصوفين، ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر ، حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وحملت بنو تميم أبا بكر في ثوب، حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته ، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلم؟ فقالت: والله لا علم لي بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل، فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبدالله، قالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبدالله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ذهبت، قالت: نعم فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دنفاً، فدنت أم جميل، وأعلنت بالصياح، وقالت: والله إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، قال: فما فعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال: فلا شيء عليك منها، قالت: سالم صالح، فقال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم قال: فإن لله علي أن لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فأمهلتا، حتى إذا هدأت الرِجل وسكن الناس، خرجتا به، يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم.
وسننقل نوادر الحب والتفاني في مواقع شتى من هذه المقالة، ولا سيما ما وقع في يوم أحد، وما وقع من خبيب وأمثاله.
3- الشعور بالمسؤولية، فكان الصحابة يشعرون شعوراً تاماً ما على كواهل البشر من المسؤولية الفخمة الضخمة، وأن هذه المسؤولية لا يمكن عنها الحياد والانحراف بحال، فالعواقب التي تترتب على الفرار عن تحملها أشد وخامة وأكبر ضرراً عما هم فيه من الاضطهاد، وأن الخسارة التي تلحقهم -وتلحق البشر جمعاء - بعد هذا الفرار لا تقاس بحال على المتاعب التي كانوا يواجهونها نتيجة هذا التحمل.
4- الإيمان بالآخرة، وهو مما كان يقوي هذا الشعور -الشعور بالمسؤولية - فقد كانوا على يقين جازم من أنهم يقومون لرب العالمين، يحاسبون بأعمالهم دقها وجلها، صغيرها وكبيرها، فإما إلى النعيم المقيم، وإما إلى عذاب خالد في سواء الجحيم، فكانوا يقضون حياتهم بين الخوف والرجاء، يرجون رحمة ربهم ويخافون عذابه، وكانوا: {يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } وكانوا يعرفون أن الدنيا بعذابها ونعيمها لا تساوي جناح بعوضة في جنب الآخرة، وكانت هذه المعرفة القوية تهون لهم متاعب الدنيا ومشاقها ومرارتها، حتى لم يكونوا يكترثون لها ويلقون إليها بالاً.
5- القرآن وفي هذه الفترة العصيبة الرهيبة الحالكة كانت تنزل السور والآيات تقيم الحجج والبراهين على مبادئ الإسلام -التي كانت الدعوة تدور حولها - بأساليب منيعة خلابة، وترشد المسلمين إلى أسس قدر الله أن يتكون عليها أعظم و أروع مجتمع بشري في العالم -وهو المجتمع الإسلامي - وتثير مشاعر المسلمين ونوازعهم على الصبر والتجلد، تضرب لذلك الأمثال، وتبين لهم ما فيه من الحكم: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } {الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ }.
كما كانت تلك الآيات ترد على إيرادات الكفار والمعاندين رداً مفحماً، ولا تبقي لهم حيلة، ثم تحذرهم مرة عن عواقب وخيمة -إن أصروا على غيهم وعنادهم - في جلاء ووضوح، مستدلاً بأيام الله، والشواهد التاريخية التي تدل على سنة الله في أوليائه وأعدائه، وتلطفهم مرة، وتؤدي حق التفهيم والإرشاد والتوجيه، حتى ينصرفوا عما هم فيه من الضلال المبين.
وكان القرآن يسير بالمسلمين في عالم آخر، ويبصرهم من مشاهد الكون، وجمال الربوبية، وكمال الألوهية، وآثار الرحمة والرأفة، وتجليات الرضوان ما يحنون إليه حنيناً يقوم له أي عقبة.
وكانت في طي هذه الآيات خطابات للمسلمين، فيها يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، وتصور لهم صورة أعدائهم من الكفرة الطغاة الظالمين، يحاكمون، ويصادرون، ثم يسحبون في النار على وجوههم، ذوقوا مس سقر.
6- البشارات بالنجاح، ومع هذا كله كان المسلمون يعرفون منذ أول يوم لاقوا فيه الشدة والاضطهاد -بل ومن قبله - أن الدخول في الإسلام ليس معناه جر المصائب والحتوف. بل إن الدعوة الإسلامية تهدف -منذ أول يومها - إلى القضاء على الجاهلية الجهلاء، ونظامها الغاشم، وأن من أهدافها الأساسية بسط النفوذ على الأرض والسيطرة على الموقف السياسي في العالم، لتقود الأمة الإنسانية والجمعية البشرية إلى مرضاة الله. وتخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله.
وكان القرآن ينزل بهذه البشارات -مرة بالتصريح وأخرى بالكناية - ففي تلك الفترات القاصمة التي ضيقت الأرض على المسلمين، وكادت تخنقهم، وتقضي على حياتهم، كانت تنزل الآيات بما جرى بين الأنبياء السابقين وبين أقوامهم الذين قاموا بتكذيبهم والكفر بهم، وكانت تشتمل هذه الآيات على ذكر الأحوال التي تطابق تماماً أحوال مسلمي مكة وكفارها، ثم تذكر هذه الآيات بما تمخضت عنه تلك الأحوال من إهلاك الكفرة والظالمين، وإيراث عباد الله الأرض والديار. فكانت في هذه القصص إشارات واضحة إلى فشل أهل مكة في المستقبل، ونجاح المسلمين مع نجاح الدعوة الإسلامية.
وفي هذه الفترات نزلت آيات تصرح ببشارة غلبة المؤمنين قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ. وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ. وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ. أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ. فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ } وقال: { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } وقال:
{ جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنْ الْأَحْزَاب ِ} ونزلت في الذين هاجروا إلى الحبشة :
{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } وسألوه عن قصة يوسف فأنزل الله في طيها: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ } أي فأهل مكة السائلون يلاقون ما لاقى إخوانه من الفشل، ويستسلمون كاستسلامهم، وقال وهو يذكر الرسل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيد ِ} وحينما كانت الحرب مشتعلة بين الفرس والرومان، وكان الكفار يحبون غلبة الفرس بصفتهم مشركين، والمسلمون يحبون غلبة الرومان بصفتهم مؤمنين بالله والرسل والوحي والكتب واليوم الآخر وكانت الغلبة للفرس، أنزل الله بشارة غلبة الروم في بضع سنين، ولكنه لم يقتصر على هذه البشارة الواحدة بل صرح ببشارة أخرى وهي نصر الله للمؤمنين حيث قال: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ }.
وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلم نفسه يقوم بمثل هذه البشارات بين آونة وأخرى، فكان إذا وافى الموسم، وقام بين الناس في عكاظ ومجنة وذي المجاز، لتبليغ الرسالة، لم يكن يبشرهم بالجنة فحسب، بل يقول لهم بكل صراحة، يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتدين لكم بها العجم، فإذا متم كنتم ملوكاً في الجنة.
وقد أسلفنا ما أجاب به النبي صلَّى الله عليه وسلم عتبة بن ربيعة حين أراد مساومته على رغائب الدنيا ، وما فهمه ورجاه عتبة من ظهور أمره عليه الصلاة والسلام.
وكذلك ما أجاب به النبي صلَّى الله عليه وسلم آخر وفد جاء إلى أبي طالب، فقد صرح لهم أنه يطلب منهم كلمة واحدة يعطونها، تدين لهم العرب، ويملكون العجم.
قال خباب بن الأرت: أتيت النبي صلَّى الله عليه وسلم وهو متوسد برده، وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: ألا تدعو الله، فقعد، وهو محمر وجهه، فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله -زاد بيان الراوي- والذئب على غنمه وفي رواية ولكنكم تستعجلون.
ولم تكن هذه البشارات مخفية مستورة ، بل كانت فاشية مكشوفة، يعلمها الكفرة، كما كان يعلمها المسلمون، حتى كان الأسود بن المطلب وجلساؤه إذا رأوا أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلم تغامزوا بهم، وقالوا: قد جاءكم ملوك الأرض، سيغلبون على ملوك كسرى وقيصر، ثم يصفرون ويصفقون.
وأمام هذه البشارات بالمستقبل المجيد المستنير في الدنيا ، مع ما فيه من الرجاء الصالح الكبير البالغ إلى النهاية في الفوز بالجنة، كان الصحابة يرون أن الاضطهادات التي تتوالى عليهم من كل جانب، والمصائب التي تحيط بهم من كل الأرجاء، ليست إلا: "سحابة صيف عن قليل تقشع ".
هذا ولم يزل الرسول صلَّى الله عليه وسلم يغذي أرواحهم برغائب الإيمان، ويزكي نفوسهم بتعليم الحكمة والقرآن، ويربيهم تربية دقيقة عميقة، يحدو بنفوسهم إلى منازل سمو الروح، ونقاء القلب، ونظافة الخلق، والتحرر من سلطان الماديات، والمقاومة للشهوات، والنزوع إلى رب الأرض والسماوات، ويذكي جمرة قلوبهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويأخذهم بالصبر على الأذى والصفح الجميل وقهر النفس، فازدادوا رسوخاً في الدين، وعزوفاً عن الشهوات، وتفانياً في سبيل المرضاة، وحنيناً إلى الجنة، وحرصاً على العلم، وفقهاً في الدين، ومحاسبة للنفس وقهراً للنزعات، وغلبة على العواطف، وتسيطراً على الثائرات والهائجات، وتقيداً بالصبر والهدوء والوقار.
المرحلة الثالثة
دعوة الإسلام خارج مكة
17- 1 - الرسول صلَّى الله عليه وسلم في الطائف:
في شوال سنة عشر من النبوة في أواخر مايو أو أوائل يونيو سنة 619 م خرج النبي صلَّى الله عليه وسلم إلى الطائف ، وهي تبعد عن مكة نحو ستين ميلاً، سارها ماشياً على قدميه جيئة وذهاباً، ومعه مولاه زيد بن حارثة، وكان كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام، فلم تجب إليه واحدة منها. فلما انتهى إلى الطائف عمد ثلاثة إخوة من رؤساء ثقيف ، وهم عبد ياليل ومسعود وحبيب أبناء عمرو بن عمير الثقفي، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله، وإلى نصرة الإسلام، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة (أي يمزقها )، إن كان الله أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحداً غيرك، وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً، إن كنت رسولاً لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك. فقام عنهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وقال لهم: إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني.
وأقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بين أهل الطائف عشرة أيام، لا يدع أحداً من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فقالوا: اخرج من بلادنا، وأغروا به سفهاءهم، فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، فوقفوا له سماطين (أي صفين ) وجعلوا يرمونه بالحجارة، وبكلمات من السفه، ورجموا عراقيبه، حتى اختضب نعلاه بالدماء. وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى أصابه شجاج في رأسه، ولم يزل به السفهاء كذلك حتى ألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة ، على ثلاثة أميال من الطائف ، فلما التجأ إليه رجعوا عنه، وأتى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم إلى حبلة من عنب، فجلس تحت ظلها إلى الجدار فلما جلس إليه واطمأن دعا بالدعاء المشهور الذي يدل على امتلاء قلبه كآبة وحزنا مما لقي من الشدة، وأسفاً على أنه لم يؤمن به أحد قال:
(اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، ياأرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، و أنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك ).
فلما رآه ابنا ربيعة تحركت له رحمهما، فدعوا غلاماً لهما نصرانياً، يقال له عداس، وقالا له: خذ قِطفاً من هذا العنب واذهب به إلى هذا الرجل. فلما وضعه بين يدي رسول الله صلَّى الله عليه وسلم مد يده إليه قائلاً: "باسم الله " ثم أكل.
فقال عداس: إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: من أي البلاد أنت؟ وما دينك؟ قال: أنا نصراني، من أهل "نينوى". فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى. قال له: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: ذاك أخي، كان نبياً وأنا نبي، فأكب عداس على رأس رسول الله صلَّى الله عليه وسلم ويديه ورجليه يقبلها.
فقال ابنا ربيعة أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاء عداس قالا له: ويحك ما هذا؟ قال: يا سيدي، ما في الأرض شيء خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي، قالا له: ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.
ورجع رسول الله صلَّى الله عليه وسلم في طريق مكة بعد خروجه من الحائط كئيباً محزوناً كسير القلب، فلما بلغ قرن المنازل بعث الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة .
وقد روى البخاري تفصيل القصة -بسنده - عن عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها حدثته أنها قالت للنبي صلَّى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أُحد؟ قال: لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجيبني إلى ما أردت، فانطلقت -وأنا مهموم- على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب -وهو المسمى بقرن المنازل- فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك. وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره، بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ، ثم قال: يا محمد، ذلك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين -أي لفعلت والأخشبان: هما جبلا مكة ، أبو قبيس والذي يقابله وهو قعيقعان -، قال النبي صلَّى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبدالله عز وجل وحده لا يشرك به شيئاً.
وفي هذا الجواب الذي أدلى به الرسول صلَّى الله عليه وسلم تتجلى شخصيته الفذة، وما كان عليه من الخلق العظيم الذي لا يدرك غوره.
وأفاق رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، واطمأن قلبه؛ لأجل هذا النصر الغيبي الذي أمده الله عليه من فوق سبع سماوات، ثم تقدم في طريق مكة حتى بلغ وادي نخلة ، وأقام فيه أياماً. وفي وادي نخلة موضعان يصلحان للإقامة -السيل الكبير والزيمة - لما بهما من الماء والخصب، ولم نقف على مصدر يعين موضع إقامته صلَّى الله عليه وسلم فيه.
وخلال إقامته هناك بعث الله إليه نفراً من الجن، ذكرهم الله في موضعين من القرآن، في سورة الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم ٍ}.
وفي سورة الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا } إلى تمام الآية الخامسة عشرة.
ومن سياق هذه الآيات -وكذا من سياق الروايات التي وردت في تفسير هذا الحادث - يتبين أن النبي صلَّى الله عليه وسلم لم يعرف بحضور ذلك النفر من الجن، وإنما علم ذلك حين أطلعه الله عليه بهذه الآيات، وأن حضورهم هذا كان لأول مرة، ويقتضي سياق الروايات أنهم وفدوا بعد ذلك مراراً.
وحقاً كان هذا الحادث نصراً آخر أمده الله من كنوز غيبه المكنون بجنوده التي لا يعلمها إلا هو، ثم إن الآيات التي نزلت بصدد هذا الحادث كانت في طيها بشارات بنجاح دعوة النبي صلَّى الله عليه وسلم، وأن أي قوة من قوات الكون لا تستطيع أن تحول بينها وبين نجاحها: {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍوَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا }.
أمام هذه النصرة، وأمام هذه البشارات، أقشعت سحابة الكآبة والحزن واليأس، التي كانت مطبقة عليه منذ أن خرج من الطائف مطروداً مدحوراً، حتى صمم على العود إلى مكة ، وعلى القيام باستئناف خطته الأولى في عرض الإسلام، وإبلاغ رسالة الله الخالدة بنشاط جديد وجد وحماس.
وحينئذ قال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ يعني قريشاً، فقال: يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً و مخرجاً، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه.
وسار رسول الله صلَّى الله عليه وسلم حتى إذا دنا من مكة مكث بحراء، وبعث رجلاً من خزاعة إلى الأخنس بن شريق ليجيره، فقال: أنا حليف، والحليف لا يجير. فبعث إلى سهيل بن عمرو، فقال سهيل: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، فبعث إلى المطعم بن عدي، فقال المطعم: نعم، ثم تسلح ودعا بنيه وقومه فقال: البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمداً، ثم بعث إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم "أن ادخل "، فدخل رسول الله صلَّى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى يا معشر قريش ، إني قد أجرت محمداً فلا يهجه أحد منكم، وانتهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته، ومطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته.
وقيل: إن أبا جهل سأل مطعماً: أمجير أنت أم متابع -مسلم -؟ قال: بل مجير. قال: قد أجرنا من أجرت.
وقد حفظ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم للمطعم هذا الصنيع، فقال في أسارى بدر : لو كن المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له.
18- 1 - مقدمة عرض الإسلام على القبائل والأفراد:
في ذي القعدة سنة عشر من النبوة -في أواخر يونيو أو أوائل يوليو سنة 619م - عاد رسول الله صلَّى الله عليه وسلم إلى مكة؛ ليستأنف عرض الإسلام على القبائل والأفراد، ولاقتراب الموسم كان الناس يأتون إلى مكة رجالاً، وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، لقضاء فريضة الحج، وليشهدوا منافع لهم، ويذكروا الله في أيام معلومات، فانتهز رسول الله صلَّى الله عليه وسلم هذه الفرصة، فأتاهم قبيلة قبيلة يعرض عليه الإسلام، ويدعوهم إليه، كما كان يدعوهم منذ السنة الرابعة من النبوة.
18- 2 - القبائل التي عرض عليها الإسلام:
قال الزهري: وكان ممن يسمى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، ودعاهم وعرض نفسه عليهم بنو عامر بن صعصعة، ومحارب بن خصفة، وفزارة، وغسان، ومرة، وحنيفة، وسليم، وعبس، وبنو نصر، وبنو البكاء، وكندة، وكلب، والحارث بن كعب، وعذرة، والحضارمة، فلم يستجب منهم أحد.
وهذه القبائل التي سماها الزهري لم يكن عرض الإسلام عليها في سنة واحدة، ولا في موسم واحد، بل إنما كان ما بين السنة الرابعة من النبوة إلى آخر موسم قبل الهجرة. ولا يمكن تسمية سنة معينة لعرض الإسلام على قبيلة معينة، نعم هناك قبائل قد جزم العلاَّمة المنصورفورى أن عرض الإسلام عليهم كان في موسم السنة العاشرة. وقد ذكر ابن إسحاق كيفية العرض وردودهم، وهاك ملخصاً:
1- بنو كلب، أتى النبي صلَّى الله عليه وسلم إلى بطن منهم، يقال لهم بنو عبدالله، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول لهم: يا بني عبدالله، إن الله قد أحسن اسم أبيكم، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.
2- بنو حنيفة ، أتاهم في منازلهم فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه رداً منهم.
3- وأتى إلى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال بحيرة بن فراس (رجل منهم ): والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله، يضعه حيث يشاء، فقال له: أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه.
ولما رجعت بنو عامر تحدثوا إلى شيخ لهم لم يواف الموسم، لكبر سنه، وقالوا له: جاءنا فتى من قريش من بني عبد المطلب، يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه، ونقوم معه، ونخرج به إلى بلادنا، فوضع الشيخ يديه على رأسه، ثم قال: يا بني عامر هل لها من تلاف؟ لذُناباها من مطلب؟ والذي نفس فلان بيده ما تقولها إسماعيلي قط، وإنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم؟
18- 3 - المؤمنون من غير أهل مكة:
وكما عرض رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) الإسلام على القبائل والوفود، عرض على الأفراد والأشخاص، وحصل من بعضهم على ردود صالحة، وآمن به عدة رجال بعد هذا الموسم بقليل. وهناك لوحة منهم:
1-سويد بن صامت، كان شاعراً لبيباً من سكان يثرب، يسميه قومه الكامل، لجلده وشعره وشرفه ونسبه، جاء مكة حاجاً أو معتمراً، فدعاه رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) إلى الإسلام، فقال: لعل الذي معك مثل الذي معي. فقال له رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): وما الذي معك. قال حكمة لقمان. قال: اعرضها علي. فعرضها، فقال له رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى عليّ، هو هدى ونور، فتلا عليه رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) القرآن، ودعاه إلى الإسلام فأسلم، وقال: إن هذا لقول حسن. فلما قدم المدينة لم يلبث أن قُتل يوم بعاث. وكان إسلامه في أوائل سنة 11 من النبوة.
2- إياس بن معاذ، كان غلاماً حدثاً من سكان يثرب، قدم في وفد من الأوس ، جاءوا يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج ، وذلك قبيل حرب بعاث في أوائل سنة 11 من النبوة، إذ كانت نيران العداوة متقدة في يثرب بين القبيلتين -وكان الأوس أقل عدداً من الخزرج - فلما علم رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) بمقدمهم جاءهم فجلس إليهم، وقال لهم: هل لكم في خير مما جئتم له؟ فقالوا: وما ذاك؟ قال: أنا رسول الله، بعثني إلى العباد، أدعوهم أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وأنزل عليّ الكتاب، ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ: أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع -رجل كان في الوفد- حفنة من تراب البطحاء فرمى بها وجه إياس، وقال: دعنا عنك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت إياس وقام رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، وانصرفوا إلى المدينة من غير أن ينجحوا في عقد حلف مع قريش .
وبعد رجوعهم إلى يثرب لم يلبث إياس أن هلك، وكان يهلل ويكبر ويحمد، ويسبح عند موته ، فلا يشكون أنه مات مسلماً.
3- أبو ذر الغفاري، وكان من سكان نواحي يثرب، ولما بلغ إلى يثرب خبر مبعث النبي (صلَّى الله عليه وسلم) بسويد بن صامت وإياس بن معاذ وقع في أذن أبي ذر أيضاً، وصار سبباً لإسلامه.
روى البخاري عن ابن عباس قال: قال أبو ذر: كنت رجلاً من غفار ، فبلغنا أن رجلاً قد خرج بمكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل وكلمه، وآتني بخبره، فانطلق، فلقيه، ثم رجع، فقلت: ما عندك؟ فقال: والله لقد رأيت رجلاً يأمر بالخير، وينهى عن الشر، فقلت له: لم تشفني من الخبر، فأخذت جِراباً وعصاً، ثم أقبلت إلى مكة ، فجعلت لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم و أكون في المسجد. قال: فمر بي عليّ. فقال: كأن الرجل غريب؟ قال: قلت نعم. فقال: فانطلق إلى المنزل، فانطلقت معه، لا يسألني عن شيء ولا أسأله ولا أخبره. فلما أصبحت غدوت إلى المسجد؛ لأسأل عنه، وليس أحد يخبرني عنه بشيء. قال: فمر بي عليّ فقال: أما زال للرجل يعرف منزله بعد؟ قال: قلت لا. قال: فانطلق معي، قال: فقال: ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ قال: قلت له: إن كتمت عليّ أخبرتك، قال: فإني أفعل، قال: قلت له: بلغنا أنه قد خرج ههنا رجل يزعم أنه نبي الله، فأرسلت أخي يكلمه، فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه.
فقال له: أما إنك قد رشدت، هذا وجهي إليه، ادخل حيث أدخل، فإني إن رأيت أحداً أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي، وامض أنت، فمضى، ومضيت معه حتى دخل، ودخلت معه على النبي (صلَّى الله عليه وسلم)، فقلت له: اعرض علي الإسلام، فعرضه، فأسلمت مكاني، فقال لي: يا أبا ذر، اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل. فقلت: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم، فجئت إلى المسجد وقريش فيه، فقلت: يا معشر قريش ، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابىء. فقاموا، فضربت لأموت، فأدركني العباس، فأكب علي، ثم أقبل عليهم فقال، ويلكم أتقتلون رجلاً من غفار ؟ ومتجركم وممركم على غفار . فأقلعوا عني، فلما أن أصبحت الغد، رجعت، فقلت مثل ما قلت بالأمس، فقالوا قوموا إلى هذا الصابىء، فصنع بي ما صنع بالأمس، فأدركني العباس، فأكب علي وقال مثل مقالته بالأمس.
4- طفيل بن عمرو الدوسي، كان رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً رئيس قبيلة دوس، وكان لقبيلته إمارة أو شبه إمارة في بعض نواحي اليمن ، قدم مكة في عام 11 من النبوة، فاستقبله أهلها قبل وصوله إليها، وبذلوا له أجل تحية وأكرم تقدير، وقالوا له: يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر، يفرق بين الرجل وأبيه، وبين الرجل وأخيه، وبين الرجل وزوجه، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمه ولا تسمعن منه شيئاً.
يقول طفيل: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ولا أكلمه، حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفاً؛ فرقا من أن يبلغني شيء من قوله، قال فغدوت إلى المسجد، فإذا هو قائم ي