على مدى الأسبوع الماضى، انشغل المجال العام فى مصر بمعركتين طاحنتين، إحداهما تلك التى يترقب الجميع اندلاعها يوم ١٤ نوفمبر المقبل بين المنتخب الكروى الوطنى ونظيره الجزائرى، لحسم بطاقة الصعود إلى نهائيات كأس العالم، والأخرى تفاعل راهناً بشدة على النقاب، وما إذا كان عادة أم عبادة.. حرية شخصية أم تنطعاً. وعلى هامش المعركتين الرئيسيتين، ثمة قضايا تعلو وتهبط، لتخطف شيئاً من الاهتمام بين حين وآخر، ومنها قضية اتهام إحدى الصحف لبعض الفنانين بالشذوذ، والصراع بين مرتضى منصور وأحمد شوبير، وتفاعلات أزمة «أنفلونزا الخنازير» ومخاطرها الجمة.
لا يحتاج الأمر لفطنة كبيرة لرصد رواج تلك القضايا واستئثارها بجل اهتمام النخب والجماهير فى مصر راهناً، كما أنه لا يستدعى إجراء المسوح العلمية لقياس مدى هيمنتها على أولويات الرأى العام، لأن استعراضاً بسيطاً لما تنشره الصحف، وتبثه القنوات التليفزيونية، وتفشيه وسائل الإعلام الجديدة، ويتداوله الناس فى المنتديات والمحافل، يؤكد، بما لا يدع مجالاً للشك، أنها لم تسيطر فقط على المجال العام، بل أيضاً استلبته لصالحها، وحولته مساهماً فى تأجيجها، ورافداً لتطوراتها.
راقب أين تضع الصحف السيارة أخبار المعركتين الكبيرتين فى نسخها الورقية، وارصد أكثر الأخبار قراءة وإثارة للتعقيبات على مواقع الإنترنت الإخبارية، وتابع أكثر البرامج التليفزيونية مشاهدة، ولاحظ الأهمية الفائقة التى تبديها للمعركتين وثلة الأخبار المصاحبة لهما، بالإضافة إلى القدر المذهل من تفاعل المشاهدين متابعة واتصالاً وانخراطاً وتوحداً.
لطالما كان الحديث عن نظرية المؤامرة، فى الأساس، مملاً وباعثاً على الضجر، أضف إلى هذا أن التحذيرات العتيقة من خطورة «التلاعب بالعقول» و«حرف اهتمامات الرأى العام» لا تجد كثيراً من الأنصار الآن، كما أن محاولة فرض الوصاية على الجمهور ونقد اهتماماته ليست بالأمر المُحبذ عادة، خصوصاً أن الاتهامات بالحذلقة والتعالى جاهزة لكل من يخاطر باتخاذ هذا المنحى، لذلك لا يبقى لك إلا محاولة متواضعة للتفسير، وربما إن أمكن تقصى الأبعاد والتداعيات.
يبدو لى أن انصراف طاقة المصريين وجهدهم الرئيس طيلة الأسبوع الفائت خلف هدف تحقيق الفوز العريض على الجزائر كروياً، ليس سوى محاولة لإدراك «الإنجاز»، الذى عجزوا لأكثر من عقود ثلاثة، وأدركوا أنهم سيعجزون مستقبلاً، عن تحقيقه فى أى مجال أكثر أهمية وأوفى مصداقية فى قياس قدرات الأمم التنافسية وعظم همتها وكفاءة أدائها.
كما يبدو لى أن احتدام المعركة على «النقاب» والانقسام حوله إلى فريقين كبيرين ينخرطان فى صراع مرير، ليس سوى محاكاة لمعركة أخرى حقيقية مطلوبة، تحجم الأطراف المعنية بها عن خوضها بدوافع الخوف والتحسب والإرجاء، وهى المعركة التى تتصل بهوية المجتمع وطبيعة الدولة المصرية والأدوار المفترضة للدين إزاءهما.
فمنذ انتصار أكتوبر المجيد قبل ٣٦ سنة، يتعلق المصريون بهدف قومى واحد، يتميز بكونه صريحاً وممكناً ومفتوحاً لإعادة المحاولة، ويمكن تعليق الفشل فى إدراكه على الحظ أو فساد التحكيم، وهو هدف الفوز فى مباريات الكرة وبطولاتها.
ومنذ انتهت المعارك العسكرية مع إسرائيل، يتحلق المصريون حول مفهوم جديد لـ«الجهاد»، باعتباره سلفية فردية سلمية، تركز على السلوك الشخصى المظهرى، وتُستلب لأكثر المفاهيم الدينية حرفية وشكلانية وظلمة، وتناقضاً، أو تتغاضى جهلاً أو استخذاءً، عن جميع المعانى الإيجابية النبيلة للجهاد فى الإسلام وعن أصوله ومقتضياته وتكاليفه الواجبة.
ليست مصر بدعة فى انصرافها عن الحقيقى وانشغالها بالزائف، فثمة العديد من الدول حولنا منغمسة فى ذلك وأكثر، لكن الإنصاف يقتضى القول إن مصر تتحمل مسؤولية أكبر، وتستحق لوماً أعنف، مرة لأن أعداءها الدائمين يركضون فى المضمار الصح، وأخرى لأن محيطها من الأشقاء والحلفاء لا يمرض إلا بمرضها ولا ينهض إلا
بنهوضها، ومرات لأن مخزونها الحضارى ورصيدها الإنسانى أعز من أن يُبتذل ويُهان.النظرة على الإعلام تفضح أولويات الجماعة الوطنية، ومراقبة المجال العام تكشف انخراطه كلياً فى متابعة الأحداث المزيفة وتجنب الكلام الجد، ونجوم المرحلة ليسوا جادين بما يكفى ومعظمهم ليس فوق مستوى الشبهات.
وفى مقابل التكثيف، المدبر أو الطوعى، لقضايا الشذوذ والأشرطة الجنسية ومعارك النقاب ومواجهات الكرة وتمثيليات «مكافحة أنفلونزا الخنازير»، تغيب، عمداً أو جهلاً، قضايا أهم، مثل تحلل قدرة السياسة الخارجية للدولة، وتغول الفساد، وتكلس الحكم، والتهديدات التى تستهدف حصتنا من مياه النيل، والمطالبات السودانية بحلايب، وغض البصر عن رى المزروعات بمياه الصرف الصحى، وتداعى منظومات التعليم والصحة والنقل والزراعة، والمخاطر البيئية الحقيقية التى تهدد أراضينا بالزوال.
جميل جداً أن نفوز فى مباريات الكرة، على ألا نكتفى بهذا عن طلب «الإنجاز»، ومطلوب جداً أن نلتزم بالشكلى من الدين ونحمى حريتنا الفردية، على ألا نكتفى بهذا عن الجوهرى أو نهدر حرية الوطن.