- فن اختراع الأزمات
لولا أننى أثق تماما فى حسن شحاتة.. فى أخلاقه والتزامه ووضوحه.. وأعرف سمير زاهر عن قرب.. وأتخيل كيف يدير عمرو أديب كل يوم برنامج «القاهرة اليوم».. لكنت قد تخيلت أن كل ما جرى هو سيناريو متفق عليه وتم الإعداد له منذ انتهاء مباراتنا مع أمريكا.. وأن سمير زاهر اتصل تليفونيا بعد المباراة بعمرو أديب وطلب منه أن يثير موضوع فتيات الليل فى معسكر المنتخب وأرسل له عبر البريد الإلكترونى قصاصة الصحيفة الجنوب أفريقية التى أثارت الموضوع.. وأن عمرو أديب وافق على المشاركة فى هذا السيناريو لإنقاذ الجهاز الفنى من أى انتقاد أو غضب جماهيرى وإعلامى وظهر على شاشة الأوربت ليتحدث عن النجاسة كسبب رئيسى للخسارة أمام أمريكا..
وبعدها يتم الدفع باللاعبين أحمد حسن وأبوتريكة وزيدان ليدافعوا عن المنتخب.. ثم يختتم حسن شحاتة الأمر بانفعال صارخ وغاضب.. وينهى عمرو أديب البرنامج.. لتصبح مصر كلها لا تتحدث إلا عن فتيات الليل.. ويندفع الكثيرون للدفاع عن المنتخب ونجومه ولاعبيه..
وينسى الناس فى الشوارع والبيوت أمريكا ولماذا خسرنا أمامها.. ينسون الشكل المهترئ والمرتبك للمنتخب أمام أمريكا ولا يعود أحد يتذكر إلا الحديث عن فتيات الليل.. وتصبح هؤلاء الفتيات هن الأزمة التى تعيشها مصر كلها.. وفجأة يصبح الشاغل الوحيد لنا جميعا.. على الشاشات وأوراق الصحف وفى الشوارع والمقاهى والمكاتب والبيوت.. هو الدفاع عن سمعة منتخبنا الكروى والتزامه الأخلاقى.. وإلى درجة أن يتم تأجيل أى قضايا أخرى وإغلاق أى ملفات أخرى مهما كانت درجة أهميتها وضرورتها.
وأنا هنا لا أطرح احتمال الاتفاق والسيناريو والمؤامرة.. فلم يتفق أحد مع أحد.. ومن الواضح أن كل الأفعال وردود الأفعال كانت تلقائية وعشوائية بدون تخطيط أو تدابير مسبقة.. وإنما أحاول مناقشة سلوكنا الجماعى العام والبحث عن تفسير حقيقى ومقنع لكل ما جرى.. ولماذا أصبحنا هكذا أمة شديدة العبقرية والنبوغ فى اختراع الأزمات وليس مواجهة ما هو موجود بالفعل فى حياتنا وبلادنا من أزمات وهموم ومواجع.. وكأن الأزمات الحقيقية والمتتالية التى نعيشها لم تعد تكفى فقررنا اختراع أزمات جديدة كل يوم وفى كل مكان وكل مجال أيضا.
٢ - الحقائق التى تجاهلها عمرو أديب
لا أعرف دوافع عمرو أديب التى جعلته شديد الانفعال فى هجومه على المنتخب إلى حد وصفه بالمنتخب النجس.. وليس من حقى التفتيش فى نواياه وحساباته الخاصة.. وإذا كان عمرو يريد كسب مزيد من الاهتمام والتأثير.. فقد تحقق له ما أراد.. وأصبح هو وبرنامج «القاهرة اليوم» حديث كل الناس فى مصر ومانشيتات للصحف ومادة للبرامج الكثيرة على الشاشات الأخرى على الرغم من أنه البرنامج الحوارى الوحيد المشفَّر فى مقابل ستة برامج أخرى متاحة على الهواء بالمجان..
وإذا كان يريد شهرة أكبر ومكانة أعلى فقد أصبح رجل واحد لابد أن يعتذر لمنتخب مصر لأنه لو لم يعتذر فلن يلعب المنتخب تصفيات كأس العالم على حد تأكيدات اللاعبين وتصريحاتهم.. وإلى حد دفع عامل بسيط فى شارع الجلاء لأن يستوقفنى متسائلا عمن يكون عمرو أديب الذى لا يعرفه ولكنه أصبح يسمع أنه قد يكون السبب فى عدم لعب المنتخب تصفيات كأس العالم ويكون الدافع الأول لاعتزال أبوتريكة وإصرار الآخرين على خلع فانلات منتخب مصر..
أما إذا كان عمرو أديب يريد الحقيقة.. فقد كان عليه أن يسأل ويراجع.. وكان عليه أولًا أن يمتلك ثلاث حقائق مؤكدة.. الأولى هى أن أخلاق هذا المنتخب والتزامه فوق أى تشكيك أو مزاعم.. الناس فى الشارع تعرف ذلك وكل الصحفيين أنفسهم واثقون من ذلك.. ولم يكن هناك أى مبرر لأن تنشط برامج وصحف أخرى وتبذل كل هذا الجهد بكل هذه العصبية لتدافع عن نجوم الناس أصلًا لم تتهمهم بأى سقوط أخلاقى من أى نوع..
والنقطة الثانية هى أنه لا يمكن إثارة أزمة بهذا الحجم استنادًا لتحقيق واحد فى صحيفة واحدة محدودة التأثير والانتشار.. وأتحدى أن يكون هناك من قرأ هذا التحقيق كاملا.. وإلا كان انتبه لكثير من النقاط الظاهرة أو المخفية فى نفس التحقيق.. فالبوليس فى نفس ذلك التحقيق نفى أن تكون هناك بنات ليل دخلن معسكر المنتخب المصرى.. وختام التحقيق يتحدث عن ظلم العمال السود فى الفندق واتهامهم بالسرقة لمجرد أنهم سود.. وكلام كثير القصد منه تبرئة العمال بأى شكل حتى لو باختراع كذبة فتيات الليل..
إلا أن عمرو أديب جرى للأسف وراء العنوان ولم يمنح نفسه مهلة أو فرصة قراءة التحقيق حتى آخره.. ولم ينتبه عمرو أديب إلى أنه هو نفسه ممكن أن يصبح ضحية لهذا الأسلوب وذلك إن قامت إحدى الصحف الصغيرة بنشر خبر كاذب عن فضيحة لعمرو أديب.. وجاء برنامج آخر بقصاصة من تلك الصحيفة وبدأ يحاكم عمرو أديب وسيمسك هذا المذيع الآخر بقصاصة الصحيفة أمام الكاميرا تماما مثلما أمسك عمرو بقصاصة الصحيفة الأفريقية..
أما النقطة الثالثة فهى أن الطب والعلم تجاوزا هذه النقطة منذ زمن طويل جدا ولم تعد ممارسة الجنس تمنع لاعبى كرة القدم من اللعب والإجادة.. وهو ما يعنى أننا كلنا نرفض الجنس الحرام بدوافع دينية وأخلاقية فقط وليس لأن ممارسته ستمنع اللاعبين من الإجادة فى الملعب وتحقيق الفوز وكسب احترام الآخرين..
وكان من الممكن أن يصطحب لاعبو المنتخب زوجاتهم معهم إلى جنوب أفريقيا مثلما تفعل المنتخبات العالمية الأخرى ولا يتسبب ذلك فى تراجع للمستوى أو تعثر الأداء وحيرة التشكيل بهذا الشكل.. وهو ما يعنى أن المنتخب المصرى أبدا لم يستقبل فتيات ليل أو نهار فى معسكره.. ولكن حتى لو كان هناك خمسة لاعبين استقبلوا هؤلاء الفتيات كما زعمت الصحيفة الأفريقية وكما قال عمرو أديب.. فلم يكن ذلك ليصلح أن يكون سببا لما شاهدناه كلنا فى مباراتنا مع أمريكا.
٣ - كرة القدم.. والمنّ والأذى
لم يعد هناك فى مصر من يملك حق التشكيك فى قدرات حسن شحاتة واستحقاقه أن يصبح المدرب الأهم والأعظم فى تاريخ الكرة المصرية.. ولا يمكن التقليل من حجم موهبة أبوتريكة الرائعة التى أسعدت مصر كلها.. أو الانتقاص من تاريخ طويل لأحمد حسن حافل بالعطاء والانتصارات والبهجة.. ولكن كل ذلك لا يمكن أن يصبح مبررا لسياسة المنّ والأذى الذى تحدث بها النجوم ومدربهم.. نحن الذين أسعدنا مصر.. نحن الذين جعلنا مصر تفرح.. نحن الذين صنعنا فرحة كل المصريين.. وكل ذلك حقيقى وواضح.. ولكن مصر فى المقابل هى التى أعطتهم جميعا الملايين التى أصبحوا يملكونها والبيوت التى باتوا ينعمون بها والشهرة والمكانة التى باتت معها الحياة أجمل وأسهل وأكثر نعومة ورفاهية..
فنجوم مصر ليسوا شهداء فى حرب وليسوا مثل آخرين كثيرين أعطوا لمصر كل شىء حتى الحياة نفسها ولم ينالوا فى المقابل أى شىء.. ولم يشارك أحد منهم فى صنع الفرحة ولم يقبض الثمن.. صحيح أن الفرحة أحيانا ليس لها ثمن.. ولكن كان ولا يزال من المفترض أن تبقى مصر أكبر وأجمل من أن يمنّ عليها أحد بهذا الشكل.. والمصريون العاديون والبسطاء.. المحاصرون دوما بهموم لقمة العيش وأحلام مستحيلة أو مؤجلة طول الوقت.. لابد أن يبقوا أكبر من أن يعايرهم أى أحد بأنه يوما ما قدم لهم الفرحة والبهجة..
ثم إنه ليس من المفروض ولا من المقبول أن يلعب المنتخب مباراة سيئة.. فإذا غضبت الصحافة والإعلام وكل الناس.. يخرج علينا من يعطينا دروسا فى الأدب والأخلاق والتاريخ ويقول لنا بتهكم وتعالٍ سخيف إنه ليس من حقنا أن نغضب من هؤلاء الذين أسعدونا فى كأس الأمم مرتين وبالفوز على إيطاليا.. إيطاليا نفسها نسيت أن نجومها هم أبطال العالم وسخرت منهم بعد الخسارة أمام مصر وعايرتهم بثيابهم الداخلية.. وأخشى أن يكون كل هذا الكلام..
كل هذا المنّ والأذى.. بعد الخسارة أمام أمريكا.. هو مجرد بروفة لما سيقال بعد الخروج من تصفيات كأس العالم.. لأنه من الواضح أن تصفيات كأس العالم باتت هى آخر ما يشغل كثير من مسؤولى الكرة فى بلادنا.. والدليل أن رئيس اتحاد الكرة وبقية أعضاء مجلس إدارته والمدير الفنى وكل زملائه فى الجهاز وأحمد حسن كابتن المنتخب وبقية نجوم المنتخب.. كل هؤلاء قضوا الأيام الأربعة الأخيرة ولا شاغل لهم إلا عمرو أديب وما قاله وإثبات براءتهم التى نحن واثقون منها أصلا بدون كل هذه الضجة والصخب والكلام الفارغ.. ولكن لا أحد تحدث أو اهتم أو حتى انشغل بكأس العالم..
وإذا كان عمرو أديب قد اعتذر عما قاله عن كل نجوم مصر ومدربهم.. فإن حسن شحاتة أيضا مطالب بالاعتذار للمشاهد المصرى بعدما سمعه الجميع على شاشة التليفزيون يقول غاضبا: "قرفتونا الله يخرب بيوتكم".. فما هكذا يمكن أن يتحدث تليفزيونيًا المدير الفنى لمنتخب مصر.
٤ - أخطاء محمود طاهر
على المستوى الشخصى والعملى والعقلى والمهنى والاجتماعى.. أحترم محمود طاهر كثيرا وجدا.. وأثق فيه ثقة مطلقة.. وأعتبره من أفضل من يديرون بعثات مصر الكروية وبالتحديد فى مثل هذه الأوقات بالغة الحرج وشديدة الحساسية.. ولكننى بالرغم من كل ذلك أرى أن محمود طاهر.. كرئيس لبعثة مصر فى جنوب أفريقيا.. أخطأ مرتين..
المرة الأولى حين تعرض منتخب مصر للسرقة ورفض محمود طاهر أن يتقدم ببلاغ رسمى تضامنا مع جنوب أفريقيا التى تحاصرها الشكوك والاتهامات بعجزها وإخفاقها الأمنى.. فمصر ليست أبدا مطالبة بالتغاضى عن أى جريمة لمجرد إعلان التضامن مع جنوب أفريقيا.. أما الخطأ الآخر فهو مسارعة محمود طاهر- بمنتهى السعادة- للاستشهاد بواقعة سرقة منتخب البرازيل للتدليل على براءة المصريين..
وكأن جموع المصريين كانوا يحتاجون إلى دليل أصلى أو إضافى ليحتفظوا بثقتهم فى أخلاق نجومهم والتزامهم.. أو كأنه لو لم يتعرض نجوم البرازيل للسرقة كنا سنفقد ثقتنا واقتناعنا بنزاهة وبراءة كل نجوم مصر ومنتخبها.. والمثير فى الأمر الآن.. وبعد انتهاء مولد سيدى عمرو أديب وفتيات الليل.. بدأ المصريون الآن يتداولون شائعات أخرى فيها فتيات ليل أيضا.. ولكنهن هذه المرة لم يأتين للقاء أى من لاعبى المنتخب.. وإنما خرجت شائعة أولى تؤكد أنهن جئن للمعسكر بصحبة أحد الإعلاميين.. وشائعة ثانية أشارت إلى إعلامى آخر.. وثالثة قالت إنه أحد المصاحبين للمنتخب..
والمؤسف أن وراء هذه الشائعات بعض من لا تزال لديهم حساباتهم الخاصة مع المنتخب أو مع الذين كانوا فى جنوب أفريقيا.. ووجدوها فرصة رائعة أن يطلقوا هذه الشائعات على أسماء بعينها سواء للخلاص منها أو للتقليل من إمكاناتها ونجاحاتها.. شائعات قد تتحول اليوم أو غدا إلى حكايات وأخبار وقصص وفضائح سيتعامل معها الكثيرون باعتبارها حقائق.. وهو ما يعنى أننا لا نزال مجتمعًا لم يعد يبحث إلا عن الفضيحة.. ولم يعد يثيره ويصنع النجاح فيه إلا هتك أعراض الناس بالباطل والخوض فى سيرهم لتحقيق مصالح ومكاسب شخصية.
٥ - المشهد الحزين فى المطار
لم أقبل ولن أقبل أبدا أن يذهب جمال مبارك وحسن صقر إلى مطار القاهرة ليكونا فى استقبال منتخب مصر العائد من جنوب أفريقيا لمجرد إعلان التضامن مع المنتخب لمجرد أن مذيعا تليفزيونيا- أيًا كان اسمه أو حجمه أو قوته أو مكانته-تحدث بشكل غير صحيح وغير لائق عن المنتخب.. ولم أفهم كل هذا التكريم الذى شهده مطار القاهرة لحظة الوصول.. والإلحاح الإعلامى المستمر على الجماهير لتذهب فى الصباح الباكر إلى المطار لتكون فى استقبال العائدين..
فمصر لم تعد من جنوب أفريقيا بكأس البطولة.. ومصر لم تختتم مشاركتها فى تلك البطولة بشكل رائع وأنيق.. وإذا كان الهدف هو الاحتضان والتشجيع من أجل التأهل لكأس العالم.. فليس بهذا الشكل.. وليس بهذا الخلط غير المبرر بين الفوز والهزيمة.. وكما أصر الإعلام المصرى على الاحتفال بالخسارة أمام البرازيل.. كان الإصرار على حشد الجموع لاستقبال لاعبى مصر أثناء العودة.. ويذهب اللاعبون إلى بيوتهم وهم سعداء للغاية بمصافحة جمال مبارك وقبلاته..
وكل منهم واثق أنه الآن فوق أى نقد أو مساءلة.. وأنه لم يعد أى أحد يجرؤ على الاقتراب من المنتخب ومدربه ولاعبيه.. وليس بهذه الروح نستعد لمواصلة مشوار تصفيات كأس العالم.. وكان يجب أن يشعر الجميع أنهم أخطأوا تماما مثلما أجادوا.. وبهذه المناسبة أود التوقف عند قناة «الحياة».. التى غامرت واشترت حصريا حقوق مرافقة شاشتها للمنتخب المصرى فى كل أوقاته ولحظاته..
وكان إقبال الناس على المشاهدة واهتمامهم شهادة نجاح لمهيب عبدالهادى صاحب هذا السبق الرائع.. وأحمد شوبير الذى أدار كل ذلك بخبرة واقتدار وتميز.. وقناة «الحياة» نفسها التى قدمت درسا للآخرين فى أنه ليس من الضرورى أن تملك حقوق المباريات نفسها لتنجح إعلاميا وتنال اهتمام الناس وعيونهم وآذانهم واحترامهم أيضا.