التعدد والطلاق
لا شك في أن موضوع التعدد والطلاق يشغل حيز كبير من تفكير الناس في المجتمع الإسلامي, وتحتل مسألة تعدد الزوجات أهمية كبيرة لكونها تحدد علاقة الرجل بالمرأة ومدى حميمة هذه العلاقة. وينقسم المجتمع بين معارض ومؤيد, تبعا للتيارات الفكرية التي ينتمون إليها والبيئة المحيطة, وفي النهاية يبقى السؤال حائرا.
في الحقيقة أريد أن أبدأ البحث في قضية التعدد والطلاق بالسؤال التالي: هل عشق الرجل لزوجته من الأمور المرفوضة في مجتمعنا اليوم؟ وهل العلاقة الوطيدة بين الرجل والمرأة تعتبر خطرا على الدين؟ قد تبدوا تلك الأسئلة غريبة ولا معنى لها! ولكن إذا ما درسنا علاقة الرجل والمرأة في الأديان السماوية (التي تصور المرأة كالشيطان دائما) فإننا سوف نكتشف معنى هذه الأسئلة.
لقد رأت الديانة المسيحية أن علاقة الرجل بالمرأة تضر بالعبادة, فحين ينشغل الرجل بالسعي وراء شهواته الجسدية فهو يهمل الدين الذي خلق من أجل خدمته, وعلى النقيض جاء الفكر الإسلامي ليؤكد على ضرورة الجنس وأهمية في الحياة البشرية بل وابتعد عن فكرة التصوف فيه, لأنة رأى في قضاء الشهوة إعانة للنفس على العبادة, وحث للنفس على العمل للحصول على المزيد في الجنة (الحور العين). وقد أكد الدين الإسلامي على وجوب إشباع هذه الشهوة لكل من الرجل والمرأة. يقول الغزالي عن وجوب إشباع رغبة المرأة الجنسية في كتاب إحياء علوم الدين "فإن إنزالها ربما يتأخر فيهيج شهوتها, ثم القعود عنها إيذاء لها".
ولكن إلى أي مدى يسمح لكل من الرجل والمرأة بالتمتع بالحياة الجنسية؟ فالمرأة مدعاة خطيرة للهو, ولذلك يجب استعمالها لتحقيق أهداف محددة تتلخص في تزويد الأمة الإسلامية بالذرية والنسل و إطفاء الرغبات التي توقدها الغريزة الجنسية, ولا يجب إطلاقا أن تغدو المرأة مثار عاطفة أو محط اهتمام مفرط لأن العاطفة والاهتمام يسخران لله وحده, ويتخذان شكل البحث عن المعرفة الدينية والتأمل والعبادة. لذلك قسم الغزالي المجتمع إلى قسمين: قسم منتج للفكر والمعرفة ويطلبها كطريقة للعبادة وقسم آخر مستهلك من القسم الأول ويتكون من النساء. ونرى هذا التقسيم جليا عندما صور الغزالي العلاقة بين الرجل وزوجته بعلاقة السيد للعبد, فهي رقيقة عنده!
ولم يخفي الغزالي احتقاره الشديد للعاشق! فوصفة بالبهيمة, نرى ذلك في كتابة ميزان الأمل: "وقد ينتهي بعض الضلال (أي المحب) إلى العشق, وهو عين الحماقة وغاية الجهل بما وضع الجماع له, ومجاوزة لحد البهائم في تملك النفس وضبطها لها. لأن المتعشق لم يقنع بإرادة شهوة الجماع وهي أقبح الشهوات و أجدرها بأن يستحي منها, حتى أعتقد أن لا تنقضي إلا في محل واحد (أي في امرأة بعينها). والبهيمة تقضي الشهوة أنّى اتفق فتكتفي به. وهذا (المتعشق) لا يكتفي إلا من معشوقتة حتى ازداد به ذلاّ إلى ذلّ وعبودية إلى عبودية. واستسخر العقل لخدمة الشهوة, وقد خلق آمرا مطاعا لا ليكون خادما للشهوة محتالا لأجلها وهو مرض نفس فارغة لا همة لها". لا أعتقد أن هناك من يختلف على شدة كرة الغزالي للعاشق, فألفاظ مثل بهيمة, أحمق, جاهل و أقبح, تدل على مدى فحش العمل وهو هنا العشق!
ومن هنا يمكننا أن نفسر مفهوم التعدد كمحاولة تستهدف بشكل مباشر الحد من تطور الخلية الزوجية على المستوى العاطفي, والتركيز على الناحية الجنسية فقط, وينتج عن ذلك إضعاف الالتزام المتبادل بين الزوجين كعشيقين. إن النتيجة الفعلية لتعدد الزوجات هي أن "الزوجة لا تملك زوجها", وتقتسمه مع زوجة أو زوجات أخريات, ويعنى ذلك أن الزوج الذي يتزوج بأكثر من واحدة لا يرتبط عاطفيا بامرأة واحدة , والمرأة أيضا هي الأخرى لا ترتبط بزوجها ارتباطا وثيقا, وتنصرف أكثر إلى علاقات أخرى اجتماعية أو حتى عاطفية. لقد وجدت من مقابلاتي العديدة مع عدد كبير من الرجال الذين يؤمنون بالتعدد, أنهم يعترفون بأن الزواج من الثانية خيانة للأولى! وبالطبع لم يكن ذلك الاعتراف ليحدث لولا تطور مفهوم الحب والعلاقة بين الرجل والمرأة والنظر لها على أنها ليست مجرد علاقة جنسية بحتة.
وليس الطلاق المسهل للرجل ببعيد عن التعدد, فالرجل يمتلك وحدة حق استمرارية العلاقة, وتحديد مصير الأسرة بأكملها! و يرتكز الطلاق على تفسير مرتبط بالغريزة شأنه في ذلك شأن التعدد, وذا كان في تعدد الزوجات يتعلق الأمر بقوة شهوة الرجل فإن الطلاق يرتبط بجانب الملل الذي قد يعرفه الرجل في حياته الزوجية, بحيث يشكل بالنسبة إلية حماية ضد الزنى الذي قد ينجم عن هذا الملل. ونجد هذه الفكرة التي تعطي تبريرا غريزيا للطلاق واضحة عند الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين بقولة " فإن يسر الله له مودة ورحمة واطمأن قلبه بهن (أي عدة زوجات), وإلا فيستحب له الاستبدال"
لقد حاولت البت في قضية التعدد والطلاق من وجهة نظر مختلة, وذلك عن طريق تحليل النصوص المكتوبة والعاملة في المجتمع المسلم الحديث. ولا يخفى على أحد مدى المعاناة التي يعاني منها المجتمع اليوم بسبب اتباع التقاليد من جهة, والرغبة في تطبيق النزعة الإنسانية القائمة على احترام الذات الإنسانية من جهة أخرى. فهل يمكن لنا من تصغير الهوة بين ما هو حضاري وما هو مكتسب من الماضي؟ لن يحدث ذلك إلى إذا قمنا بتنقيح كل ما هو مكتسب بكل صراحة و صدق وموضوعية, وابتعدنا عن الدوغماتية و الخوف.