تحت عنوان «رواية الأستاذ هيكل لبناء برج القاهرة» نشر الصحفى والروائى المرموق «يوسف القعيد» على صفحات «الفجر» فى الأسبوع الماضى، رواية الأستاذ «محمد حسنين هيكل» لقصة بناء «برج القاهرة»، كما نشرها فى أول كتبه، التى ألفها بعد وفاة عبدالناصر،
وهو كتاب «عبدالناصر والعالم»، الذى صدر بالإنجليزية عام ١٩٧١، ونشرت فصوله فى عدد من الصحف العالمية، كان من بينها جريدة «الأهرام» قبل أن يصدر فى كتاب بالعربية عن دار «النهار» ببيروت.
وخلاصة الرواية، كما وردت فى كتاب «هيكل»، تقول إن «عبدالناصر» كان يبحث مع أعضاء مجلس قيادة الثورة بناء برج لاسلكى للاتصالات الدولية التى تقوم بها وزارة الخارجية مع السفارات المصرية بالخارج، وتقوم بها إدارة المخابرات وغيرها من أجهزة الأمن،
ولما اعترض بسبب نقص الميزانية قيل له إن وكالة المخابرات الأمريكية وضعت تحت تصرف اللواء «محمد نجيب»، الزعيم الواجهة لثورة يوليو، ثلاثة ملايين دولار بشكل شخصى، فاستشاط عبدالناصر غضباً وتوجه بسيارته إلى مجلس الوزراء، الذى كان «نجيب» يرأسه آنذاك،
وطلب منه تفسيراً فقال له إنه فهم أن المبلغ مرسل من الرئيس «أيزنهاور» ضمن اعتمادات خصصها لرؤساء الدول ليتمكنوا من تجاوز مخصصاتهم المقيدة بالميزانية من أجل الدفاع عن أنفسهم وعن بلادهم ضد الشيوعية.. فطلب عبدالناصر إيداع المبلغ فى خزينة إدارة المخابرات العامة، وأمر بعدم صرف أى شىء منه إلا بإذن من مجلس قيادة الثورة.
وأثارت هذه الرواية اهتمام الزميل أحمد المسلمانى فنقلها إلى شاشة التليفزيون عبر برنامجه «الطبعة الأولى»، مبدياً دهشته لأن «هيكل» نشر الواقعة عام ١٩٧٢، ومع ذلك لم ينفها «محمد نجيب» ـ الذى كان على قيد الحياة عند نشرها ـ أملاً أن يكون لدى أسرة «محمد نجيب» ما يوضح الأمر.
والحقيقة أن «هيكل» لم يكن أول من أذاع سر بناء «برج القاهرة» بل كان أول من كشف عن هذه القصة هو «مايلز كوبلاند» ـ أحد مساعدى «كيم روزفلت»، المسؤول عن المخابرات الأمريكية فى الشرق الأوسط آنذاك فى كتابه «لعبة الأمم» ـ الذى صدرت طبعته الأولى فى أغسطس ١٩٦٩ قبل عامين من نشر كتاب «هيكل» ـ مؤكداً أنه لولا نشره لها لظلت خمسة آلاف عام تحيّر ألباب علماء الآثار،
كما تحيرها أهرامات مصر، وخلاصة روايته أنه اقترح على حكومته فى أواخر صيف ١٩٥٣ أن تدعم «عبدالناصر» بصفة شخصية بثلاثة ملايين دولار لتطوير حراسته، فوافقت على ذلك، وحين وصل المبلغ نقداً من بيروت رفض السفير الأمريكى تسليم المبلغ لـ«عبدالناصر»،
وطلب من «كوبلاند» أن يسلمه له بنفسه، مما أثار شكوكه فى احتمال أن يرفض «عبدالناصر» قبوله، فعرض الأمر على «حسن التهامى» ـ الذى كان يقوم آنذاك بدور ضابط الاتصال بين المخابرات المصرية والمخابرات الأمريكية ـ ولما استوثق من أن «عبدالناصر» لا يعارض فى قبول الهدية سلمه لـ«التهامى» فى منزل الأخير بالمعادى، فحمله فى سيارة توجهت به إلى بيت «عبدالناصر».
ويتفق «حسن التهامى» فى روايته للواقعة مع «كوبلاند» فى أن المبلغ كان مخصصاً لـ«عبدالناصر» وليس لـ«محمد نجيب» الذى يلاحظ «أحمد حمروش» ـ فى كتابه «قصة ثورة ٢٣ يوليو» ـ أنه لم يكن رئيساً للوزراء، فى التاريخ الذى ذكره «كوبلاند» للواقعة ـ والذى أخذ به «هيكل» ـ وهو نوفمبر ١٩٥٤،
إذ كان آنذاك رئيساً للجمهورية بلا سلطات، بعد أن انتهت أزمة مارس ١٩٥٤ بتجريده من سلطاته، بعد أن تحولت مصر لفترة قصيرة إلى جمهورية برلمانية، فأصبحت كل السلطات فى يد رئيس الوزراء آنذاك وهو «عبدالناصر».. وليس منطقياً ـ كما يضيف «حمروش» ـ أن تدفع المخابرات الأمريكية ثلاثة ملايين دولار لتأمين رئيس معزول وبلا سلطات أو تأثير.
ويتفق «هيكل» و«كوبلاند» فى أن «عبدالناصر» خصص المبلغ لبناء «برج القاهرة»، وكانت الفكرة فى البداية هى بناء مبنى متواضع فى حدائق الزهرية، يعلوه صار ضخم، يتجاوز ارتفاعه ارتفاع الهرم الأكبر، لالتقاط الإشارات اللاسلكية لتأمين اتصالات سريعة بين العاصمة والأقاليم،
وبين أجهزة الدولة المسؤولة عن الأمن، وبين وزارة الخارجية والسفارات المصرية بالخارج، أما بعد وصول «الرشوة الأمريكية» فقد قرر «عبدالناصر» أن يحوله إلى برج سياحى ضخم، وأن ينفق عليه ببذخ، ليشاهده السائحون والمسؤولون الأمريكيون من أى فندق فى القاهرة، كشاهد على حماقة السياسة الأمريكية التى حاولت أن ترشوه..
لكن «حسن التهامى» ينفى ذلك.. ويؤكد أن مبلغ الرشوة الأمريكية قد أنفق بالفعل على خطة تأمين «عبدالناصر» وأن «برج القاهرة» ـ الذى بدأ بناؤه عام ١٩٥٥ وانتهى عام ١٩٦١ ـ قد مُوّل فى السنة الأولى على الأقل من اعتماد إضافى فى ميزانية وزارة الخارجية، ثم من ميزانية المخابرات العامة، وأنه هو الذى أشرف على بنائه وعلى تزويده بأحدث أجهزة الاتصالات التى كانت أحدث ما عرفه العالم خلال تلك السنوات.
ولا تتناقض هذه الرواية مع روايتى «هيكل» و«كوبلاند» اللتين تُجمعان على أن «عبدالناصر» رفض أن يتعامل مع الرشوة الأمريكية باعتبارها منحة شخصية، وأمر بإيداعها خزانة إدارة المخابرات العامة، وألا ينفق منها إلا بأمر من مجلس قيادة الثورة،
وقد ساهمت المخابرات ـ كما يعترف «التهامى» ـ فى تمويل جانب من نفقات إنشاء البرج. أما الواقعة الوحيدة التى انفرد بها «هيكل» فهى إقحام «محمد نجيب» فى هذه القصة، التى لم يكن له بها أى صلة، مما اضطر الرئيس الراحل إلى اللجوء إلى القضاء، وأقام دعوى سب وقذف ضده أمام محكمة الجيزة، اضطر «هيكل» بعدها إلى الاعتذار له، على صفحات الأهرام عام ١٩٧٢.
أما المهم فهو أن يتذكر الرئيس أوباما هذه القصة عندما يشاهد برج القاهرة أثناء زيارته لها هذا الأسبوع.