وحيث أنه قبل بيان تطبيق هذين التشريعين على واقعات الدعوى تفصيلاً ، تجد المحكمة لزوما أن تعرض فى إيجاز شديد لبعض التاريخ السياسى لأسرة محمد على - فى جانب المرتبط بأسباب هذا الحكم - حتى يكتمل إيضاح الصورة الملحة لإصدار التشريعين المذكورين ، سيما الأخير منهما ، بمصادرة أموال تلك الأسرة ، وذلك من خلال تاريخ الحركة القومية لمصر وتطور نظام حكمها باعتباره من قضايا مصر القومية التى تهم الأمه بأسرها ولا يعتبر تعرض المحكمة لها لثمة اراء سياسية . ذلك الثابت بهذا التاريخ - من خبرة المحكمة بالشئون العامة و إلمامها بالقضايا القومية و مطالعتها لكتابات المؤرخين المتواترة - أن محمد على الألبانى الأصل تركى الجذور تولى حكم مصر بإرادة شعبها بتاريخ 13/5/1805 عقب انتهاء الحملة الفرنسية على مصر . ورغم أنه بنى صرح القومية بها و أرسى قواعد النهضة العلمية ، إلا أن خلفاءه من أسرته ولاة مصر هدموا ما بناه منذ أن تولى ابنه إبراهيم ومن بعده عباس الأول فاشتهر عهده بعهد النكسة والرجعية ، ثم تولى سعيد الذى بدأ فى عهده اسماعيل وهو عهد طويل أدت فيه أخطاؤه إلى التدخل الأجنبى فى شئون مصر المالية والسياسية ، ثم تولى بعده توفيق وفى عهده وقع الاحتلال الإنجليزى لمصر ، ثم تولى الملك فؤاد الذى توفى بتاريخ 28/4/1936 وبعده اعتلى ابنه فاروق - والد المستأنفات - عرش مصر بتاريخ 6/5/1936 إثر عودته من بلاد الفرنجة ، وكان لا يزال صبياً ، وبغض النظر عن التعرض للجوانب المعروفة لمسلكه الشخصى ، مما تعف عن ذكره لغة هذا الحكم ، فهى واقعات ثابتى تفيلاً بكتب التاريخ السياسى لمصر ، فقد استبد فاروق بالحكم و إنتهك الدستور على آلاف الأفدنة من وزراة الأوقاف وشهر ملكيتها باسمه فى " الخاصة الملكية " ، واستغل حرب فلسطين فى المتاجرة بأرواح ضباط وجنود الجيش فارتدت إليهم طلقات الأسلحة الفاسدة التى جلبها من الخارج متقاسماً أرباحها مع مورديها ، ورصداً لهذه الظروف الحالة وشعب مصر مغلوب على أمره ، بدأت صفوة من ضباط الجيش ( الضباط الأحرار) تستوعب الموقف وتتجرع مرارته ، وراعهم ما تعانيه البلاد من فساد الملك وعدوان الاستعمار فكانت إرادتهم إرادة الشعب ، ولما انهزم الجيش فى حرب فلسطين فى مايو 1948 ، كشفت المعارك عن الخيانة والرشوة فى إدارة الجيش ، فسرت روح الانتقام فى نفوس الضباط من هذا النظام لإنقاذ البلاد من الانهيار وكان ذلك إداناً بانتهاء عهد أسرة محمد على والقضاء عليها لكل ذلك قام الضباط بالثورة فى 23 يوليو 1952 معبرين عن أهداف شعب مصر ، وتمت مجابهة كبرى التراكمات وهى فقدان العدالة الاجتماعية بين طبقات الشعب المصرى ، وتحيف طبقة قليلة حقوق السواد الأعظم بسوء توزيع ملكية الأراضى الزراعية حيث كان عدد 61 مالكاً لكل أكثر من ألفى فدان ،28 لكل أكثر من 1500 فدان . أما الغالبية من صغار الملاك ، فلكل ¼ فدان لا يكفيه القوت الضرورى ، ثم باقى أفراد الشعب لا يجدون هذا القوت . وأمام هذه الحالة الاجتماعية المتردية للبلاد تدخل المشرع للمصلحة العامة على ما سلف ،فأصدر بتاريخ 9 سبتمبر 1952 المرسوم بقانون الإصلاح الزراعى 178/1952 المذكور يجعل الحد الأقصى للملكية 200 فدان . ثم وبالنظر إلى ما عانته البلاد من أسرة محمد على فقد أصدر مجلس الثورة قراراً بتاريخ 8/11/1953 سالف الذكر بمصادرة أموال وممتلكات تلك الأسرة وكذلك الأموال والممتلكات التى آلت منهم إلى غيرهم بالوراثة أو المصاهرة أو القرابة ، ثم صدر القانون 598/53 بشأن تلك الاموال ونص المادة 16 منه على أن تصدر إدارة تصفية تلك الأموال المشاه بالمادة 17 منه بياناً بأسماء من شملهم قرار المصادرة فأصدرت ذلك البيان بأسمائهم نشر بالوقائع المصرية 9/12/1953 العدد (98) مكرر غير عادى وعددهم 380 شخص أولهم فاروق ثم أفراد أسرته ومنهم المستأنفات وأمهن فريدة ثم باقى أفراد الأسرة العلوية .
وحيث أنه بصدور المرسوم بقانون الإصلاح الزراعى المذكور ، فقد آلت إلى الدولة ملكية مازاد عن مائتى فدان من أملاك الملك السابق فاروق ومنها الأرض الزراعية البالغ مساحتها 33س 11ط 1744ف موضوع الدعوى الواردة باشهاد الوقف المؤرخ 28/12/1944 سالف الذكر والمقدم من المستأنفات ، ثم وبعد مرور نحو سنة وشهرين من صدور قانون الإصلاح المذكور لم ثلبث أن انتقلت إلى الدولة نهائيا وبغير مقابل ملكية تلك المساحة جميعها ، وكذا ملكية السراى المعروف بقصر الطاهرة موضوع عقد الهبة المؤرخ 28/12/1944 سالف الذكر، والمقدم من المستأنفات وذلك بمصادرتها ضمن أموال وممتلكات أسرة محمد على ، وكذلك الأموال والممتلكات التى آلت منهم إلى غيرهم عن طريق الوراثة أو المصاهرة أو القرابة بموجب قرار مجلس قيادة الثورة الصادر فى 8/11/1953 . وقد صدر قانون الإصلاح الزراعى باسم الملك فاروق ذاته فالأولى أن يلتزم به وورثته من بعده . أما قرار مجلس الثورة بالمصادره ، فقد صدر من هذا المجلس الذى يمثل السلطة التشريعية فى ذلك الوقت المعاصر لقيام الثورة ،وفى ظل قانون الأحكام العرفية ، حيث كان هذا المجلس قد أصدر إعلاناً دستورياً آخر فى 10/12/1952 بإسقاط دستور 1923 الذى كان ساريا وقت الثورة ، واعلانا دستوريا آخر فى 16/1/1953. بتجديد فترة انتقالية لمدة ثلاث سنوات لإعداد دستور آخر ديمقراطى . و من ثم ، فإن هذا القرار لا تمارى فيه المستأنفات ، وهو باق لم يلغ أو ينسخ بقانون آخر .ولما صدر دستور 1956 بعد الفترة الانتقالية المذكورة ، أضفى على ذلك القرار- وكذا قانون الإصلاح المذكور - صفة الشرعية الدستورية ، الأمر الذى استقرت عليه أحكام المحكمة الدستورية العليا المتضمنة أن المشرع لم يلتزم فى دستور 1956 موقفاً موحداً من التشريعات السابقة عليه ،بل غاير بينها فيما أسبغه عليها من الحماية ، فاتخذ بالنسبة لبعضها موقفاً اقتضته ضرورة تحصين التشريعات والتدابير و الإجراءات الثورية الاستثنائية التى اتخذت فى ظروف لا تقاس فيها الأمور بالمقياس العادى ،وذلك بالنص على عدم جواز الطعن فيها أو المطالبة بإلغائها أو التعويض عنها بأى وجه من الوجوه ، وأضافت المحكمة الدستورية أن المادة 191 من دستور 1956 لم تنقل إلى الدساتير التالية ، لأنها استنفذت أغراضها ، إذ أسبغت على التشريعات الثورية الاستثنائية التى صدرت منذ قيام الثورة حتى دستور 1956 حصانة نهائية لا مبرر ولا مسوغ لتكرار النعى عليها ............."
".............. وحيث أنه ختاماً لأسباب هذا الحكم ،تنوه المحكمة إلى أنه إذا كان القضاء المصرى لا شأن له بالسياسة ، إلا أن ارتباط موضوع الدعوى الماثلة ببعض الجوانب ، السياسة لتاريخ الحركة القومية فى مصر فرض على المحكمة التعرض لبعض هذه الجوانب ، لاعتبارها من القضايا القومية التى لا ينحسر عنها الضمير القضائى دائماً ، وعدم اعتبار إدلائه بدلوه فيها من قبيل ابداء الآراء السياسية . فقد بنى الشعب المصرى قضاءه عبر زمن طويل ، و أرسى قواعد حيدته واستقلاله ، ليقوم بدوره فى حماية الحقوق و مصالح الوطن ، فأصبح الابن النابغ لوطنه وحامى حمى أمنه و راعى مصالحها . ولما كانت العدالة - وهى غاية القضاء - يجب أن تكون انعكاساً لوجدان الشعب وضميره ، ومن ثم وجب أن تمثل المحكمة ضمير الشعب كله . ولقد ظل القضاء المصرى على مر العصور و الأجيال كالطود الشامخ حامياً للحقوق والحريات فى مصر ، فأصبح قضائها فخر أمتهم وثقتها وضميرها ورمز إرادتها ، ومقصد رجائها فى إقرار سيادتها . وها هى أمتهم تشرفهم بالاحتكام إليهم فى إدارة أمرها من أدق أمورها فى مباشرة حقوقها السياسية لانتخاب نوابها فى البرلمان القادم ، سندها فى ذلك قاعدة دستورية أصيلة مفادها أن القضاء كسلطة يستمد كيانه ووجوده من سلطة الشعب ، لأن العدالة فى مصر لصيقة بالشعب طبقاً للمادة الثالثة من الدستور التى تنص على أن السيادة للشعب وهو مصدر السلطات . ومن ثم ، فإن الشعب هو مصدر السلطة القضائية فى مصر ، منه تتبع ، وإليه ترتد ، وتباشر هذه السلطة شطراً من سيادته ، وأحكامها تصدر وتنفذ باسمه والقوانين المنظمة لهذه السلطة القضائية ، وتلك التى تطبقها التزامها بها ، هى من صنع ممثلى الشعب والبرلمان .
وحيث أنه لذلك تنوه المحكمة إلى أن ثورة 23 يوليو 1952 - تكئة الدعوى الماثلة - هى أساس الحياة الكريمة لشعب مصر على أرضه ، وأياً كان وجه الرأى السياسى فى الضباط الأحرار الذين حملوا لواءها ، فإنهم بتفجيرها كتبوا تاريخاً جديداً لميلاد الشعب فى مصر ، و بدونها لما عرف هذا الشعب طريقاً لحكم نفسه بنفسه ،ولما تذوق أبداً طعم الحرية والديمقراطية وسيادة القانون واستقلال القضاء المصرى الذى يعيش الآن أزهى عصوره ، وبذلك فلن تموت أبدا هذه المعانى الدستورية السامية على أرض مصر . أما الملك السابق فاروق ، الألبانى الأصل تركى الجذور ، فإن أخطاءه فى حقها من جرائم تواترت على تفصيلها كتب التاريخ السياسى ، ولا يتسع هذا المقام لذكرها . أما المتباكون على عهد فاروق ، فهم مشكوك فى كنانتهم ، متخاذلون وطنيتهم ، لم يجر ماء النيل فى عروقهم .
"فـــلـــهذه الأســـــــباب"
حكمت المحكمة فى موضوع الاستئناف :
( أولاً ) بإلغاء الحكم المستأنف فيما قضى به من عدم سماع الدعوى وبرفض الدفع المبدى من المستأنف عليهم بعدم سماعها ، وبسماعها .
(ثانياً) بتعديل الحكم المستأنف فيما قضى به من قبول تدخل نعمة الله الخواص إنضاميا بجعله هجومياً ، وبتأييده فيما تبقى به من قضاء بقبول تدخل هيئة الخدمات الحكومية هجوميا ً.
(ثالثاً) برفض الدفعين المبديين من المستأنف عليهم بعدم اختصاص المحكمة ولا نيا بنظر الدعوى ، وباختصاصها بنظرها .
(رابعاً ) برفض الدفع المبدى من المستأنف عليهم بعدم قبول الدعوى لرفعها غير ذى صفة بالنسبة للمستأنف عليهما الأول والثالث ، وبقبولها .
(خامساً) برفض الدفع المبدى من هيئة الإصلاح الزراعى بعدم قبول الدعوى لرفعها على غير ذى صفة بالنسبة لها ، وقبولها .
(سادساً) بسقوط حق المستأنف عليهم إبداء الدفع بعدم اختصاص المحكمة بنظر الدعوى وباختصاصها بنظرها .
(سابعاً) برفض الدفع المبدى من المستأنف عليهم بسقوط حق المستأنفات فى المطالبة .
(ثامناً ) وفى موضوعى الدعوى والتدخل :برفضهما ،و ألزمت المستأنفات والمتدخلين بالمصروفات المناسبة و المستأنفات عليهم بباقيها والمتدخلين بمصروفات تدخلهما وأمرت بالمقاصة فى أتعاب المحاماة .
صدر هذا الحكم وتلى علناً بجلسة يوم الثلاثاء الموافق 29/8/2000.
أمين السر ...................... رئيس المحكمة