زمان كان اليتيم حالة خاصة تصيب من يفقد أبويه أو أحدهما، لكن عبقرية «الزمن الرديء» الذي نعيشه، حولت القيم إلي حالة عامة يعاني منها شعبنا إلا من رحم ربك.
وإذا اتفقنا علي أن اليتيم يستحق الشفقة والطبطبة، علي اعتبار أنه لن يأمن علي غده بعد ذهاب السند والوتد، فلا أظننا نختلف كثيراً عن تلك الحالة، فمن ناحية الغد والأمان، فلا أري غنياً ولا فقيراً يأمن علي يومه، فما بالكم بغده؟ ومن ناحية السند والوتد، فنحن شعب يعيش في التيه ولا يمتلك أحدنا بوصلة تشير إلي أننا نسير في الاتجاه الصحيح.
زمان - مرة أخري - كانت الممثلة راقية إبراهيم تقول في فيلم «زينب» وقلبها يتمزق بعد فراق أهلها: «اللي مالوش أهل.. الحكومة أهله»، وبالنظر إلي الزمن البعيد الذي قيلت فيه هذه العبارة، كان الناس يعتبرونها كلام سيما «أونطه يعني»، ولكن في زمن عبدالناصر كانت عبارة راقية إبراهيم تختصر الواقع، بل إن حكومة عبدالناصر لم تكن تنتظر رحيل أهالينا حتي تشملنا برعايتها، كانت ترعانا نحن وأهالينا. حكومة عبدالناصر كانت تتبني الجنين، وهو في بطن أمه حتي توجد له عملاً ومسكناً، لكنها كانت تترك له حق اختيار عروسته. لم يكن الأب «ينعي» هم ابنه أو ابنته، ولم يكن الناس يشكون من ضآلة مرتباتهم.. كان الشعب المصري يذهب لتشجيع الكورة مرتدياً البدل، مثلما يذهب لسماع أم كلثوم، لم يكن أحد يشكو ضيق ذات اليد ولم يبك أحد علي الديمقراطية الضائعة، ولم يحلم أحد بتعدد الأحزاب وتداول السلطة.
لم نكن نحلم إلا بالوحدة العربية كمقدمة وحيدة لاسترداد فلسطين، حتي أحلامنا الأخري كانت أحلاماً جماعية لا يشذ عنها إلا شراذم قليلة موجودة في كل مجتمع.
كنا مع ذلك - ومازلنا - بلداً فقيراً يستلف كثيراً، ويسدد حين ميسرة، وكنا في حالة حرب ونوجه أغلب مواردنا للمجهود الحربي، لكن العدالة في توزيع القليل جعلته كثيراً ومبروكاً، هذه البركة التي لم يعد لها وجود في مصر، فأصبحنا نري كل شيء قليل لا يكفي لسد أفواه أكثر من ٧٠ مليون فم.
لكن ما فعلته معنا حكومة جمال عبدالناصر كان السبب الرئيسي لليتم الذي نرفل الآن في ثيابه السوداء. كان هناك شبه تعاقد بين الحكومة والشعب بأن يوفر له الطرف الأول حياة كريمة من مأكل ومشرب، وملبس، وتعليم، ورعاية صحية، ومسكن، وعمل، علي أن يلتزم الطرف الثاني - الشعب يعني - بعدم معارضته النظام الحاكم ظاهرياً. كان الطرف الثاني هو الكسبان، فلماذا أتكلم وأعارض وأنا واكل، شارب، نايم، متجوز، ساكن، وشغال؟ لكن «باطنياً» كان الشعب هو «الخسران» من وراء هذا التعاقد لأنه استسلم للاتكالية، وسلم نفسه لإعلام حكومته، فأصبح الصواب هو ما تراه صواباً، وأصبح الخطأ هو ما تعتبره خطأ، وبالتالي اعتبر أغلب شعبنا جمال عبدالناصر منزهاً عن الخطأ، حتي وقعته النكسة وانكشفت الأخطاء وانقسم الناس ما بين مصدق ومكذب.
الشاهد، أن الحقبة التي تلت حكم عبدالناصر سادها أسلوب جديد، أدي إلي انفصام العلاقة بين الأب وابنه، أقصد بين الحكومة والمواطن، صحيح أن المسألة لم تبدأ فجأة، لكنها وصلت بالتدريج إلي العبارة الشهيرة في «الأفلام العربي بتاع زمان» حينما يصرخ الأب في وجه ابنه: «إنت مش ابني ولا أعرفك» لمجرد أن الولد يريد استخدام حقوقه الاجتماعية، والسياسية، والفنية، والرياضية، وهذا ما يحدث الآن.
فإذا كنا نلتمس العذر لحكومة عبدالناصر لأنها كانت تتبني «أولادها» بالمعني الكامل للتبني، فكيف نلتمس لحكومة تسوم شعبها - وليس أبناؤها بالطبع - سوء العذاب، لدرجة أن أبناء الشعب المصري اليتيم هم «المعذبون في الأرض»، يكفي أننا نعيش في ظل مناخ لا شيء يسير فيه علي خط مستقيم، كل شيء في هذا البلد خطأ، يؤدي إلي خطأ، يؤدي إلي ملايين الأخطاء التي نرتكبها في حق بعضنا البعض، حتي أصبح الموت هو الدعاء الذي يردده عدد ليس قليلاً من «اليتامي»، لأننا نثق في أن رحمة الله الواسعة سوف تدخلنا الجنة من غير حساب، لأننا استوفينا عذابنا وعقابنا علي هذه الأرض، وكما قيل منذ زمن: «صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة»، فنحن في حاجة لمن يقولها لنا الآن: «صبراً آل مصر فإن موعدكم الجنة».
ملاحظة أخيرة: لا أنتمي للإخوان، أو للجماعة الإسلامية، أو للتكفير والهجرة، أو لجماعة الجهاد.. أنا عضو في تنظيم اليتامي!