أفرزت الانتخابات الاسرائيلية وضعاً سياسياً معقداً ظهر فيه زعيم حزب «اسرائيل بيتنا» أفيغدور ليبرمان، قوة مركزية يصعب تجاهلها في كل التشكيلات الحكومية الجديدة.
وتأتي أهمية هذا المهاجر من شعارات حملته الانتخابية الداعية الى ضرورة إخضاع مليون وأربعمئة ألف فلسطيني الى امتحان الولاء الوطني. أي الى تطبيق شعار دعايته الانتخابية «لا مواطنة من دون ولاء»، الأمر الذي دفع النائب أحمد الطيبي الى اتهامه بالعنصرية والفاشية، خصوصاً أنه وعد في حال دخوله الحكومة بطرح مشروع قانون ينزع بموجبه عن كل عربي الحقوق المدنية والهوية الاسرائيلية ما لم يقسم يمين الولاء لدولة اليهود.
ومع أن هذا الطرح الاستفزازي رفع من شعبية ليبرمان لدى الناخبين الاسرائيليين، إلا أن الفلسطينيين اعتبروه مجرد ذريعة لتبرير عملية طرد جماعي لم يتجرأ على تنفيذها من قبله ارييل شارون. وقد هاجمه وزير الدفاع ايهود باراك، زعيم «حزب العمل»، لأنه لم يحمل السلاح دفاعاً عن مبادئه، مثلما فعل هو وغيره، بل اكتفى بالتنظير من وراء مكتبه. وكان بهذا التلميح يشير الى الحقبة الأولى التي عمل فيها ليبرمان مساعداً لرئيس الوزراء بنيامين نتانياهو.
وتردد في حينه أن نتانياهو شجعه على إنشاء حزب يستقطب المهاجرين الروس، وذلك من أجل وقف انتشار الحزب الذي أطلقه المهاجر الروسي الشهير ناتان شارانسكي تحت اسم «اسرائيل بعلياه». وقد اختار ليبرمان لحزبه سنة 1999 اسماً استوحاه من الحزب الوطني الذي أسسه بوريس يلتسن «روسيا بيتنا». وبعد مرور فترة وجيزة خاض انتخابات 2000 بشكل مستقل وحصل على أربعة مقاعد في الكنيست فقط. وركز حملته في ذلك الوقت على ايجاد فرص عمل لمليون مهاجر روسي كان من الصعب عليهم التكيف مع نظام جديد ومجتمع فسيفسائي غير متجانس.
عملية القفز الى المرتبة الثالثة حسب نسبة الأصوات، أظهرت حزب «اسرائيل بيتنا» كقوة شعبية يمكن أن تؤسس لنزاع داخلي إذا ما قرر ليبرمان فعلاً ترويع مليون وأربعمئة ألف فلسطيني، وارغامهم على الهرب باتجاه الضفة الغربية. ويتخوف المراقبون من تنامي هذا التيار المتطرف المطالب بداية بطرد 170 ألف مواطن عربي يعيشون في القدس الشرقية. لهذا السبب حرص ليبرمان على إعلان نتائج الانتخابات من مكتب الحزب في القدس، بينما قام الزعماء الآخرون بإعلان النتائج من مكاتبهم في مدينة تل أبيب. وقد كرر أمام أنصاره بأنه سيعمل على تحقيق الانفصال الكامل - أرضاً وشعباً - معتبراً أن ما حدث في قبرص هو النموذج الصحيح لمشروع الدولتين. وهذا يستدعي بالضرورة، الإقدام على تنفيذ خطوات مؤلمة ينتج عنها تبادل في السكان والأرض.
وبين الشعارات التي طرحها ليبرمان في حملته الانتخابية، كان شعار الأمن لاسرائيل بواسطة الردع النووي. وقال إنه يصرّ على تولي منصب وزير الدفاع لاعتبارات تتعلق بضرورات منع إيران من امتلاك السلاح النووي. ويتخوف رئيس الجمهورية شمعون بيريز من عواقب هذا الشحن العنصري، لذلك أشار المعلقون الى احتمال تحريك الدعوى المقامة ضده بسبب ارتكاب مخالفات جنائية بينها تبييض أموال عبر مصارف قبرصية. وربما كان الهدف من وراء تحريك الدعوى إقفال فرص المشاركة في الحكومة لأن ليبرمان يحمل أفكاراً مقلقة استمدها من حزب «كهانا» المتطرف. اي الحزب الذي حُظر في اسرائيل كونه يدعو الى ترحيل الفلسطينيين من كل فلسطين. وكشف أخيراً ان ليبرمان انضم الى هذا الحزب فور قدومه من مولدافيا في روسيا سنة 1978.
زعماء الأحزاب الاسرائيلية فوجئوا بالدعم الشعبي الذي حظي به حزب «اسرائيل بيتنا»، خصوصاً من خارج قاعدته الأساسية الممثلة بالمهاجرين الروس. وخلص المعلقون بشأن الاسباب الخفية التي سجلت هذه القفزة الى سلسلة استنتاجات أهمها: أولاً، الهاجس الأمني الذي استحوذ على اهتمام أكثر من مليون اسرائيلي اجبرتهم صواريخ «حماس» على الاختباء في الملاجئ.
ثانياً، قدرة ليبرمان على استغلال الفراغ السياسي الذي خلفه قادة «ليكود» و «كديما» و «العمل» على اعتبار ان رسائلهم الى الناخبين كانت مغلفة بالغموض وعدم الوضوح. لذلك مالت شريحة من الناخبين غير الحزبيين، يقدر عددهم بـ900 ألف مقترع، نحو التيارات الواضحة في طروحاتها مثل «اسرائيل بيتنا» و «كديما».
ثالثاً، مخاطبة الشارع الاسرائيلي الخائف من العرب بلهجة غير مألوفة فيها الكثير من الثقة والاعتداد بالنفس. صحيح ان تطميناته غير مقنعة وغير عملية... ولكن الصحيح ايضاً ان الجمهور المذعور يحتاج الى مرساة أمان. وقد لعب ليبرمان دور هذه المرساة بطريقة التحدي معتبراً ان أرض اسرائيل هي لليهود فقط، بينما العرب هم ضيوف موقتون.
ويبدو ان هذه الصراحة الفجة استمالت الناخب الذي لا يضيره ان يرى في اسرائيل نسخة أخرى عن دولة جنوب أفريقيا العنصرية سابقاً.
بما أن الانتخابات جرت على وقع صواريخ القسام وقنابل الفوسفور الأبيض، فإن عنف الحملات كان السمة المميزة لخطب كل المرشحين، حتى «المعتدلة» نسبياً تسيبي ليفني أضفت على ظهورها مسحة الرجولة والعسكريتاريا مدعية انها شنت الحرب على «حماس» كي تثبت ان المفاوضات التي بدأتها مع الشريك محمود عباس لا يمكن ان تزيحها عن الخطوط الحمر. وكان من الطبيعي ان تكون وعود نتانياهو منسجمة مع روحية التعبئة والاستنفار وكل ما اججته خطب ليبرمان. وقد استغل عملية تأخير فرز الأصوات ليقدم نفسه كفائز برئاسة الحكومة الجديدة، مدعياً ان التيار اليميني المتطرف الذي يقوده يستطيع تجميع 65 صوتاً، هو المطلوب لإقناع الرئيس بيريز بضرورة التكليف.
وكان مكتب «ليكود» قد اصدر كتيباً خلال المعركة الانتخابية، يتهم فيه ليفني بأنها وضعت قضية القدس على طاولة المفاوضات مع السلطة الفلسطينية. علماً بأن جميع الأحزاب اتفقت على تحييد موضوع القدس وإرجاء البت بمستقبل المدينة الى حين موافقة العرب على بقاء القدس موحدة تحت السيادة الإسرائيلية. وبين اللاءات الخمس التي تضمنها الكتيب، بند يتحدث عن تطوير ملموس للوضع الاقتصادي الفلسطيني. وعندما يتم تحقيق هذه الخطوة يمكن الانتقال إلى الاتفاقات السياسية. وحجة نتانياهو أن الدول ذات الأنظمة الاقتصادية المتجانسة لا تتنازع عادة، بينما الدول ذات الأنظمة السياسية المختلفة معرضة دائماً للتصادم. وعليه يرى أنه من واجب إسرائيل اعانة المجتمع الفلسطيني على النهوض اقتصادياً بحيث يقترب من مستوى المجتمع الإسرائيلي. وعندئذ فقط تسهل عملية تأسيس دولتين جارتين لا تباعد بينهما الحروب والفوارق الاجتماعية أو الاقتصادية.
المحللون في إسرائيل يعتبرون كل هذه الطروحات المستعصية مجرد فصاحة انتخابية لن تعيق مسيرة التفاوض على السلام، ولو أن ليفني قد تتساهل في الأمور الشكلية. وما يهم الرئيس شمعون بيريز كراع لموضوع الحكومة الائتلافية، هو ايجاد صيغة مقبولة تمنع ازدواجية القرار بحيث يعطل المتطرفون عمل المعتدلين. وهذا ما يحاول الرئيس الأميركي باراك اوباما تحاشيه بهدف اعطاء مبعوثه جورج ميتشل فرصة تحريك مسار المحادثات المعطلة أو المجمدة. وفي رأي الصحف الأميركية أن فوز ليبرمان بدور القوة الضامنة لأي حزب سيكلف بتشكيل الحكومة، هو بمثابة قنبلة موقوتة يمكن أن تفجر عملية السلام. وهي ترى أن أكثر الفلسطينيين سعادة بهذه النتيجة قد تكون «حماس» و «الجهاد الإسلامي» والقوى المعارضة لأي حل يجعل من الدولة الفلسطينية أقل من محمية خاضعة لسلطة إسرائيل. أي محمية لا تملك السلطة على أجوائها، ولا يُسمح لها ببناء جيش وطني، وتعتمد في اقتصادها وأمنها على ما توفره لها صداقات المنظمات الدولية.
يقول أنصار «حماس» إن المنظمة لا تعترف باتفاق أوسلو، ولا بشرعية التنازلات التي قدمتها منظمة التحرير بالنسبة إلى الأراضي المجتزأة عن فلسطين. وهي في الوقت ذاته لن تتخلى عن دعوة التحرير الكامل، خصوصاً أن سقوط نظرية توازن القوى قد أثبت صحتها في حربي 2006 و2009. وعليه يرى قادتها أنهم قد يرضون بهدنة طويلة قد تعطي إدارة أوباما الوقت الكافي لإصلاح ما خربه سلفه جورج بوش. ولكنها قطعاً لن تجيّر للسلطة الفلسطينية مسؤولية التفاوض باسم كل الفلسطينيين.
في ضوء هذا الواقع المعقد تبدو الوساطة المصرية كعلاج موقت لأن شراكة «حماس» و «فتح» لن تبصر النور. وتتوقع اسرائيل أن يقود هذا الخلاف الى نشوء «دولة حماس» داخل غزة من دون أن تحظى بتغطية شرعية سوى شرعية أنصارها وحلفائها. ومعنى هذا ان الموقفين الفلسطيني والاسرائيلي، سيفرضان على الرئيس أوباما تأجيل جولات مبعوثه ميتشل، بانتظار ادخال هذا الصراع في سياق شرق أوسطي جديد. والسبب ان اوباما لن يكتفي لإدارته بدور الوسيط فقط، ولكنه سيطرح رؤيته كرئيس دولة يعتبر هذا النزاع جزءاً من منظومة الأمن القومي.
ومن هذه الرؤية تحدث أوباما عن المبادرة السعودية كمنطلق لتحريك العناصر المؤثرة، واجراء مفاوضات مباشرة مع سورية والمباشرة بحوار جدي مع ايران. وهو في هذا السياق لا ينتظر الوقت الكافي لبناء الثقة قبل عودة ميتشل الى المنطقة.
وفي رأي ميتشل ان خطوات بناء الثقة بين المتحاورين لن تكون شرطاً إضافياً لاتفاقات السلام وانما نتيجة لها، تماماً مثلما لم يستوجب اتفاق السلام بين مصر واسرائيل أو بين الأردن واسرائيل خطوات بناء ثقة مسبقة للتوقيع. ومثل هذا التجديد في اسلوب التفاوض قد يقترحه الرئيس أوباما إذا ما شعر بأنه تجاوز الأزمة الاقتصادية الداخلية، وبأن الوقت قد حان لطرح سياسته الخارجية والانتقال الى مرحلة ما بعد المئة يوم.