ليست مجرد عمارات وطرق وشوارع وممرات وحدائق، لكنها حالة فنية تحكي تاريخ العمارة في تلك المنطقة، لتخلد حقبة زمنية أصيلة حاول فيها حاكمها تجميل ابنة المعز وتطويرها، ليحاكي بها عاصمة النور الفرنسية، ويستقدم من أجلها خيرة مهندسي الغرب ومصمميه، ليجعلوها قبلة للجمال المعماري في الشرق الأوسط، رغم ما أصابها من شيخوخة، أحالت وجهها المشرق في الماضي، إلي وجه متجعد، شائخ الآن.
تلك هي القاهرة الخديوية، والمعني بها المنطقة التي صمم معمارها الخديو إسماعيل، وتبدأ من كوبري قصر النيل، حتي منطقة العتبة، بما حوته من دار للأوبرا احترقت في العام ١٩٧١، ومبني للبريد، ومقر لهيئة المطافئ، إلي جانب ما تفرع منها من شوارع وطرق، باتت كشبكة عنكبوتية تشكل قلب القاهرة.
وعلي الرغم من أن التطوير عرف طريقه إلي قلب القاهرة الحديثة في عهد محمد علي باشا، إلا أن النهضة العمرانية الحقيقية، بدأت بها بشكل جدي ومدروس ومخطط له، في عهد الخديو إسماعيل بن إبراهيم باشا، أكبر أبناء محمد علي.
وتقول: «القاهرة في عهد محمد علي باشا عرفت التنظيم والتطوير من خلال تركيز الصناعات والحرف في منطقة السبتية، بشمال شرق بولاق، وإزالة الأنقاض والقمامة من حولها، وردم البرك والمستنقعات المنتشرة فيها، وتحويل مساحات شاسعة منها إلي حدائق ومتنزهات،
حتي إن محمد علي أصدر قراراً عام ١٨٣١ ميلادية أمر فيه بتعمير الخرائب، وتحديد مساحتها، كما أنشأ في العام ١٨٤٣ مجلساً أوكل إليه مهمة تجميل القاهرة وتنظيفها. وفي العام ١٨٤٦ تم توسعة شارع الموسكي، وترقيم الشوارع وإطلاق الأسماء عليها.
كما عمل علي تشييد القصور الملكية الفخمة الموقعة بأسماء مصممين معماريين من إيطاليا وفرنسا، مشترطاً عليهم أن يعلم كل خبير هندسي منهم، ٤ مصريين، فنون العمارة والتشييد. وكان في مقدمة تلك القصور، قصر محمد علي باشا بحي شبرا الذي تم تجديده من قبل وزارة الثقافة منذ عدة سنوات، وقصر الجوهرة في قلعة صلاح الدين الأيوبي، وقصر النيل، وقصر القبة».
وعلي الرغم من توالي ثلاثة خلفاء علي حكم مصر بعد محمد علي باشا، بدءاً من العام ١٩٤٧ الذي تولي فيه ابراهيم باشا الحكم، مروراً بعباس الأول عام ١٨٤٨، وسعيد باشا عام ١٨٥٤، إلا أن إسهاماتهم في مجال العمارة لم تكن بالشيء الملموس الذي يمكن التأريخ له إلا فيما ندر، مثل قصر الروضة في عهد ابراهيم، وإنشاء حي العباسية في عهد عباس الاول، وحفر قناة السويس في عهد سعيد. علي عكس عهد إسماعيل باشا الذي تميز بانفجار معماري علي المستويات كافة.
تقول الدكتورة سهير حواس: «يبهرني الخديوي إسماعيل الذي كان بحق علامة بارزة في تاريخ المعمار المصري، وقد بدأت علاقته بالعمارة والفنون، منذ وقت دراسته بالنمسا، وباريس حيث تلقي تعليمه العسكري، وانبهر بتلك العمارة الغربية، التي حلم بنقلها كما هي إلي القاهرة، كي تصبح كما قال «عاصمة للشرق».
وعلي الرغم من الصورة التي عكف كتاب السيناريو المصريون علي تجسيد اسماعيل بها، إلا أن رؤية المؤرخين لتلك الشخصية تؤكد أنه كان بحق رجل المستحيل، الذي يرفض العقبات، مصراً علي تنفيذ أحلامه التي تتضح جلياً من خلال فنون المعمار، والإعمار في مصالح الدولة الحكومية،
فكما كانت عمارات وسط القاهرة وتنفيذ شوارعها، كانت دار الأوبرا في ميدان العتبة، وإصلاح أنظمة الدولة في المجالات كافة، مؤكداً أن هوايته الطوب والمونة، حتي كان قرار السلطان العثماني بالإنعام عليه بلقب «الخديوي» الذي كان أول من حمله من أبناء أسرة محمد علي، وكانت تعني «الفارس الشجاع».
وتضيف الدكتورة سهير حواس أن حدود القاهرة حينما تولي إسماعيل باشا الحكم عام ١٨٦٣، كانت تمتد من منطقة القلعة شرقاً، إلي مدافن الأزبكية وميدان العتبة غرباً، يغلب عليها التدهور العمراني في أحيائها، ويفصلها عن النيل عدد من البرك والمستنقعات والتلال والمقابر، بمساحة لا تتخطي ٥٠٠ فدان. وكان تعداد سكانها في ذلك الوقت لا يتجاوز ٢٧٠ ألف نسمة.
وكانت سمعة القاهرة في الغرب تتلخص في عبارة كان يرددها كتاب الغرب، تقول: «خير لك أن تسمع عن القاهرة، من أن تراها، فهي عاصمة للبعوض»، إلي جانب عبارة أخري تسيء إلي مياه نهر النيل، تقول: «من يشرب من ماء النيل مرة، يعود فوراً لبلاده ليعالج من الملاريا».
تلك عبارات حفزت من همة الخديوي إسماعيل الذي أعلن عن تطهير مياه النيل وقال عبارته الشهيرة: «من يشرب من ماء النيل، فسيعود له المرة تلو المرة».
وليعلن عن مشروعه في تخطيط القاهرة علي الطراز الباريسي، ويستقدم من أوروبا عمالقة التصميم المعماري، وفي مقدمتهم المصمم العالمي الشهير «هاوسمان» الذي بدأ في تنفيذ حلم إسماعيل في جعل القاهرة «باريس الشرق»،
وليستغرق تصميم وتنفيذ المشروع خمس سنوات. وتتعدد مظاهر العمران، فهذا شارع «محمد علي» الذي ربط القلعة بوسط القاهرة وافتتح في العام ١٨٧٢، وذاك شارع «كلوت بك»، يولد للحياة القاهرية في العام ١٨٧٥،
وهنا كوبري قصر النيل يربط بين القاهرة والجزيرة في العام ١٨٧١، وهناك كوبري أبوالعلا يربط بين القاهرة وجزيرة الزمالك. وتلك قصور لم تخف جمال تصميمها، في مقدمتها قصر عابدين الذي أنشئ ليصبح مقراً للحكم في مصر بدلاً من القلعة، علي مساحة ٢٤ فدانا، وتكلف بناؤه ٧٠٠ ألف جنيه مصري.
طموحات إسماعيل في تحقيق النهضة المعمارية بالقاهرة لم تكن تتوقف عند حد، ولذا كان قراره بتغيير مسار النيل ومجراه، فبدلاً من أن يمر بمنطقة بولاق الدكرور وبمحاذاة شارع الدقي حالياً وإمبابة، صار يسير في مجراه المعروف الآن،
وتم ذلك من خلال إقامة العديد من الحواجز الخرسانية عند مدخل كوبري عباس، وعند مدخل كوبري شبرد، وساعد ارتفاع مياه الفيضان علي سرعة تحويل المجري ليتم في خلال ١٨ شهراً فقط. بينما خلف انحسار المياه آلاف الأفدنة الخصبة الغنية بالطمي الأسود.
وكما تم تغيير مجري نهر النيل، تم ردم البرك والمستنقعات وفي مقدمتها، بركة عابدين التي كانت تحتل موقع الميدان الحالي، وبركة الأزبكية التي تحولت لأهم حديقة في القاهرة تحفها المسارح. بينما حلت الميادين محل باقي البرك مثل ميدان العتبة الخضراء وميدان الأوبرا، وميدان باب الحديد، وميدان سليمان باشا- طلعت حرب حالياً- وهكذا».
ويمتد مشروع التعمير الإسماعيلي للقاهرة، فيعمر مداخلها، ليكون في مدخلها الشمالي، باب الحديد وما جاوره من شارع شبرا، وليتحول المدخل الشرقي للقاهرة من حي لبائعي الفجل «الفجالة» إلي حي تزينه القصور والحدائق، وليمتد المدخل الغربي في طريق مستقيم من الأهرام وحتي ميدان الجيزة، وكذلك المدخل الجنوبي عند حلوان والمعادي.
وقام الخديو بتوزيع الأراضي في مداخل القاهرة علي الأعيان لتعميرها، وزراعتها بالأشجار، كما أنشأ شبكات الصرف الصحي، والإنارة بالغاز، وهيئة رصف الطرق. وتخصص قاهرة إسماعيل مئات الأفدنة للحدائق ، وحديقة الحيوان التي كانت الأولي في الشرق الأوسط وقتها.
ويطول الحديث عن المساجد في القاهرة الخديوية، لكن يكفي القول إنه روعي في تصميمها الحفاظ علي الطرز الإسلامية في العمارة والفنون، فكان مسجد وميدان الحسين، ومسجد وميدان السيدة زينب.
وتتسع رقعة القاهرة الخديوية، فتتضاعف مساحتها لتبلغ ٢٠٠٠ فدان، ويزداد تعداد سكانها ليبلغوا ٣٥٠ ألف نسمة. لتكتمل فيما بعد أبنيتها وطرقها المتفرعة في قلبها، وترتفع المباني المزينة بنقوش وتفاصيل لا تخفي علي عين متذوقة للفن، وبتوقيع كبار المصممين، فهذا مبني «بنك مصر» بشارع محمد فريد، يحمل توقيع المعماري النمساوي «لاشياك»،
وتلك عمارة «جروبي» في ميدان سليمان باشا، تحمل توقيع المعماري «كاستمان»، وهذا «ماريو روسي» يوقع بأنامله علي جدران أشهر مساجد القاهرة ومن بينها عمر مكرم.
يخطئ من يظن ان مهارة القاهرة انه مجرد حجر أصم، لكنه حالة إبداعية تمزج بين التاريخ والمكان والفن ذاته. لتنتج فناً يعبر عن عصر من العصور بكل ما فيه اقتصاديا واجتماعياً وسياسياً. ولذا كان المشروع الخاص بتطوير تلك المنطقة الذي ترعاه وزارة الثقافة من خلال هيئة التطوير الحضاري، ففي الخارج، يتعاملون مع تراثهم المعماري علي أنه قيمة كالأهرام،
والآثار، وكثيرون لا يعلمون أن حديقة الأزبكية التي تغنت بجمالها كتب الرحالة الأوروبيين قبل ردمها وتحويلها إلي دكاكين وجراجات قبيحة، هي ذاتها حديقة لوكسمبورج الباريسية الشهيرة بجميع معالمها وأسوارها وأشجارها، لكن الفرق هو درجة وعيهم هناك بقيمة ما لديهم، وجهلنا نحن بقيمة ما لدينا..
فالتراث المعماري لأي دولة، يعبر عن مجموعة من القيم، من بينها القيمة التاريخية التي هي ذاكرة المدن، والقيمة الجمالية التي تولد مع ميلاد المعمار، وترتبط بالطابع العام والقدرات الإبداعية، والتصميمية، والتأثيرية له، وهناك القيمة الوظيفية للعمل المعماري التي تعني الهدف المقصود من وجود المعمار في عصر من العصور، كالأسبلة في القاهرة القديمة علي سبيل المثال.