حكايات وقصص، وتراث معماري، يذكرنا بعصور لم نعشها، ولكن كم حلمنا بالتواجد فيها، وأن نكون بعض شخوصها.. شوارع القاهرة الخديوية. ورغم حداثة ما عرفته العاصمة من مبان جديدة ملأت عيون وأذهان الناس، تظل طرقاتها القديمة، في قلبها الخديوي، معبراً للكثيرين، يمرون فيه لاسترجاع الذكري، ربما، أو لقضاء حاجة من حوائجهم في وسط البلد كما تعارفوا علي تسميتها.
شوارع القاهرة الخديوية لا تحكي فقط الذكريات، ولكنها تحمل أسماء شخصيات طالما ملأت الحياة ضجيجاً، وشغلت صورها مساحات بالصحف والمجلات، ولكن سبحان من له الدوام، عبرة لمن يتعظ.
وكما تقول دكتورة سهير حواس أستاذ مساعد الهندسة المعمارية، ومؤلفة كتاب القاهرة الخديوية: نحن بحاجة إلي أن نرفع رؤوسنا لأعلي كلما مررنا بأحد تلك الشوارع، لنستشعر ونفخر ونعتز بما لدينا من ثروات معمارية وعمرانية، تتركز بها. فتصميم الطرقات، والطرز الكلاسيكية للمباني، متحف للقيم المعمارية التي سادت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
من ميدان التحرير قاعدة القاهرة الخديوية كانت البداية، أول اسم للميدان كان الخديو اسماعيل، الذي أراده رابطاً بين ثكنات قصر النيل، وقصر عابدين، ولكن الميدان الذي تحول اسمه في عهد الملك فؤاد إلي ميدان الاسماعيلية، تطور ليصبح واحداً من أهم ميادين العاصمة المصرية، ليس فقط لأنه يؤدي بك إلي ١٨ وزارة،
أو مبني البرلمان، أو لأن غالبية المظاهرات السياسية تنطلق منه، ولكن أيضاً لأنه يتصل بعدد من الشوارع الرئيسية التي تمثل عمودا فقرياً للقاهرة منها شوارع قصر العيني، والجلاء، وطلعت حرب، وباب اللوق، ورمسيس، كما يوجد به أكبر مبني رسمي، يضم عدد من المصالح الحكومية، ويحمل اسم مجمع الجلاء.
قيام ثورة يوليو لم يؤثر علي الميدان فقط من حيث الاسم حيث تحول لميدان التحرير، ولكنه تأثر بقرار منع وضع تمثال الخديو إسماعيل الذي كان يصنع في الخارج ليوضع في حديقته التي توسطته.
كثيرون لا يعرفون من هو الفلكي الذي يحمله اسم أطول شارع متفرع من ميدان باب اللوق، ولكن التاريخ يقول إنه هو ذاته محمود باشا حمدي الفلكي، أحد نبهاء مصر في الهندسة والفلك، وأحد تلامذة علي باشا مبارك بمدرسة المهندس خانة بالقاهرة، ومبتكر علم التقاويم السنوية.
شغل الفلكي عدداً من المناصب من بينها، وزارة الاشعال في حكومة اسماعيل راغب، وناظر المعارف في حكومة نوبار، إلا أن أهم ما يميز سيرته هو أنه كان من أنبغ المهندسين المصريين في عصره.
ومن الفلكي وميدان باب اللوق، إلي ميدان عابدين وقصره الملكي، والذي يتوسط قلب القاهرة، وعابدين بك هو أمير اللواء السلطاني في عهد محمد علي باشا، وكان يسكن قصراً بناه مكان القصر الحالي، وبعد وفاته اشتراه الخديو اسماعيل من أرملته وهدمه وبني مكانه قصره الذي لايزال قائماً حتي الآن، شاهداً علي العديد من الاحداث، فأمامه كانت مظاهرة عرابي ضد الخديو توفيق عام ١٨٨٢، وفيه تم حصار الملك فاروق بدبابات الإنجليز في ٤ فبراير ١٩٤٢.
وقد قام بتصميم القصر وتنفيذه المعماري دي كوريل ديل روسو وتكلف بناؤه ٧٠٠ ألف جنيه مصري، بينما بلغ ثمن أثاثه ٢ مليون جنيه، وظل القصر مقراً لحكم مصر حتي قيام ثورة يوليو ١٩٥٢.
حيث تم تغيير اسم الميدان من عابدين إلي الجمهورية، إلا أن اسمه الأول هو العالق في أذهان المصريين لارتباطه بالقصر الذي تعرض للإهمال عقب قيام الثورة وتحول لمركز للتطعيم ضد الملاريا، حتي تقرر ترميمه في السبعينيات.
قصر النيل لم يكن مجرد قصر، أو كوبري، ولكنه صار واحداً من اهم شوارع القاهرة الخديوية، حيث يبدأ من ميدان التحرير، ويمتد قاطعاً ميداني طلعت حرب، ومصطفي كامل، مارا بشوارع شريف، ومحمد فريد، وعماد الدين، لينتهي بميدان الأوبرا وشارع الجمهورية.
وكما يقول كتاب القاهرة الخديوية،كان قرار إنشاء الشارع بقرار من الخديو اسماعيل لكبير مهندسي مصر وقتها، علي مبارك ليكون طوله ١٢٥٠ متراً، وعرضه ٢٠ متراً، وبه مجموعة بنايات مميزة معمارياً ومنها مبني بنك ناصر الاجتماعي، الذي كان في الماضي مقرا للبنك الايطالي.
يعد ميدان وشارع طلعت حرب، أحد أشهر معالم قلب القاهرة، ورغم تقدير كل المصريين لشخص طلعت حرب باشا مؤسس بنك مصر، الذي صار عماد الاقتصاد الوطني المصري في عشرينيات القرن الماضي، إلا أن الميدان كان يحمل في الماضي اسم سليمان باشا، الرجل الفرنسي الذي عهد له محمد علي بمهمة تكوين الجيش المصري، وأن يكون ذراعاً يمني لابنه إبراهيم باشا في حروبه التي خاضها.
وقد كان الاسم الأصلي لسليمان باشا، أوكتاف جوزيف انتلم سيف المولود في فرنسا عام ١٧٨٨، ولكنه أعلن إسلامه واختار له محمد علي اسمه الجديد، كما زوجه من إحدي فتيات أسرته، وهي التي أنجب منها أبناءه الثلاثة، وكانت منهم حفيدته نازلي زوجة الملك فؤاد فيما بعد.
توفي سليمان باشا عام ١٨٦٠، ودفن في مصر القديمة، وتقديراً لدوره في دعم امبراطورية محمد علي، عهد للمثال جاك مار بصنع تمثال له، انتهي منه عام ١٨٧٢ ليوضع في نفس المكان الذي يوجد به الآن تمثال طلعت حرب، إلا أنه نقل من مكانه بعد قيام الثورة ووضع في المتحف الحربي بالقلعة.
ومن بين أسماء شوارع القاهرة الخديوية، يأتي شارع ميريت باشا عالم الاثار الفرنسي المولد، و اسمه بالكامل ميريت أوجست فرنسوا، وهو الشارع الذي يبدأ من عند شارع رمسيس متقاطعاً مع شوارع شامبليون، وقصر النيل، وعبد السلام عارف.
وقد بدأت علاقة ميريت باشا بمصر،عام ١٨٤٩ حينما عين بقسم الآثار المصرية بمتحف اللوفر بباريس، ثم تم إيفاده لمصر بعدها بعام، لشراء مخطوطات قبطية، ولكنه فشل في مهمته، ليقع في غرام الآثار المصرية، ويبدأ في التنقيب عنها في منطقة سقارة، وكان صاحب اكتشاف مقبرة العجول «أبيس»، التي كانت تحوي توابيت العجول.
وفي عام ١٨٥٨ كان له فضل اكتشاف معبد دندرة، وأبيدوس، وتمثال شيخ البلد الخشبي، والكاتب المصري، وغيرها من الآثار. كما كان له الفضل في بناء المتحف المصري بميدان التحرير الذي دفن في حديقته عند وفاته عام ١٨٨١.
ومن بين نساء عديدات ذاع صيتهن في المحروسة، وقع الاختيار علي السيدة هدي شعراوي، ليحمل أحد شوارع القاهرة الخديوية اسمها، وهو الشارع المتفرع من شارع طلعت حرب ويمتد ليلتقي بشارعي شريف، وعبد السلام عارف. كان الشارع فيما مضي يعرف باسم،الشيخ حمزة صاحب الضريح الموجود به.
ولكن أطلق عليه بعد ثورة يوليو اسم هدي شعراوي، رائدة الحركة النسائية في مصر والتي عرفت النضال السياسي منذ ارتباطها بزوجها، علي باشا شعراوي الذي حملت اسمه بعد الزواج به، وشاركت مع عدد من النساء ولأول مرة في تاريخ مصر، في مظاهرات ثورة ١٩١٩، وفي عام ١٩٢٣ أسست الاتحاد النسائي المصري، الذي سمح للمرأة بممارسة نشاط مزج بين السياسة والعمل الأهلي، ولتختير في ١٩٣٥ رئيساً للاتحاد النسائي الدولي. وقد توفيت عام ١٩٤٧ عن ٦٨ عاماً.
وفي القاهرة الخديوية شوارع حملت أسماء شخصيات من العائلة المالكة، تم تغييرها بعد قيام ثورة يوليو عام ١٩٥٢، لتحمل اسماء أخري تعبر عن العهد الجديد، منها شارع الملك فؤاد ملك مصر في الفترة من ٧١٩١ -١٩٣٦ والذي تغير ليحمل اسم شارع ٢٦ يوليو، ليوافق ذكري خروج الملك فاروق من مصر في ٢٦ يوليو عام ١٩٥٢، وبالشارع عدد من البنايات المهمةي أبرزها دار القضاء العالي.
وهناك شارع عبد الخالق ثروت الذي يبدأ من ميدان العتبة، ويمر متقاطعاً مع عدد من الشوارع هي عماد الدين، محمد فريد، وشريف، وطلعت حرب، وشامبليون، وينتهي بشارع رمسيس، والذي حمل منذ البداية اسم السياسي المصري الشهير، عبد الخالق ثروت باشا، ثم تغير، ليحمل اسم الملكة فريدة،الزوجة الأولي للملك فاروق، بعد زواجها به في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، ولكنه عاد لاسمه الأول بعد قيام الثورة.
وميدان إبراهيم باشا، ابن محمد علي باشا، وقائد جيوشه، الذي تحول بعد الثورة إلي ميدان الأوبرا، القابع بالقرب من ميدان العتبة الخضراء الآن.
الطريف أن تلك الأوبرا بناها الخديو اسماعيل في العام ١٨٦٧ حين أسند مشروعها للمهندس الإيطالي بترو افوسكاني والذي صممها علي نفس طراز اوبرا «لاسكالا» في ميلانو، وافتتحت في احتفالات افتتاح قناة السويس عام ١٨٦٩ بعرض أوبرا ريجوليتو، وتعرضت للحريق في عام ١٩٥٢ في حريق القاهرة، وأعيد ترميمها، ولكنها احترقت تماما في عام ١٩٧١،
لتهدم ويبني محلها جراج الأوبرا. وإلي جانب الشوارع الملكية السابقة، هناك شارع توفيق الذي حمل اسم الخديو توفيق ابن اسماعيل باشا والذي تحول اسمه إلي شارع عرابي، الذي يربط بين ميدان عرابي وشارع رمسيس.
شوارع القاهرة الخديوية لا تحمل فقط أسماء الساسة والملوك والاقتصاديين،ولكنها تحمل أيضاً أسماء كل من ساهم في رفعة مصر والنهوض بها في المجالات كافة، فما بين شارع نجيب الريحاني رائد الكوميديا، ودكتور أنطوان كلوت بك، الطبيب الفرنسي الذي أحضره محمد علي باشا لتعليم المصريين الطب، ويعد رائد الطب المصري وغيرهم.