اعتاد الجانب الأكبر من المثقفين المصريين أن يناقش الانتخابات الأمريكية من زاوية التأكيد على أنه لا يوجد فرق بين الحزبين الجمهورى والديمقراطى، وأنهما وجهان لعملة واحدة فى السياسة كما فى الاقتصاد.
وقد يكون لهذا الموقف جانب من الصحة، خاصة فيما يتعلق بالقضايا العربية، وتحديدا القضية الفلسطينية، التى يحرص كل مرشح أن يزيل عن نفسه «شبهة» الدفاع عن واحدة من أعدل القضايا فى العالم، وهى القضية الفلسطينية، ولم يخرج أوباما عن هذه القاعدة، خوفا من اللوبى الإسرائيلى تارة، وغياب الدافع وراء الدفاع عن قضية اعتاد أصحابها أن يسيئوا لها تارة أخرى، وبصورة جعلت كل سياسى فى الغرب يتردد مائة مرة، قبل أن يعلن عن دعمه لقضية لا تمتلك جماعة ضغط ولا نموذجا سياسيا (صور الاقتتال الفلسطينى الداخلى والفشل السياسى العربى).
رغم وجاهة كل هذه المحاذير إلا أنه ظلت هناك فوارق سياسية بين الحزبين، عكست حساسية مختلفة تجاه قضايا متعددة بعضها ذو طابع اجتماعى وثقافى والآخر سياسي، وظل الديمقراطيون إجمالا أكثر انفتاحا على الأقليات العرقية مقارنة بالجمهوريين، رافضين كثيرا من مقولات جماعات الضغط الدينية المتشددة، على عكس المحافظين الجدد الذين قادوا الحزب الجمهورى إلى سياسات كارثية هى الأسوأ فى تاريخ أمريكا.
وبقيت معركة أوباما ـ ماكين واحدة من أهم المعارك الانتخابية فى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، لأنها قدمت مجموعة من الرسائل والقيم السياسية التى تتجاوز هذه الثنائية التقليدية للتنافس الجمهورى الديمقراطى، بصورة يمكن تأملها عربيا ومصريا لعلها قد تفيد فى «يوم من الأيام».
المسألة الأولى تتعلق بالعلاقة بين الأجيال فى أمريكا، فالرئيس المرتقب باراك أوباما (٤٧ عاما) اختار نائبا له (جون بايدن) عمره ٦٥ عاما، دون أى عقد أو مشكلات تجعله يفكر بطريقة كيف سينفذ رجل أكبر منه بـ ١٨ عاما أوامره ويحترمها؟. هذا الأمر تكرر فى الولايات المتحدة كثيرا، ولعلنا نتذكر كيف أن وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت كان عمرها أكثر من ستين عاما فى حين كان رئيسها بيل كلينتون فى أوائل الأربعينيات.
وتعكس هذه التجارب نمطا صحيا فى علاقة الأجيال ببعضها، على عكس الحالة المصرية التى لا يعتاد فيها الشباب اختيار الكبار، والعكس صحيح، لأنهم سيسمعون فورا جملا من نوع، كيف كان هذا الشاب صغيرا «بالشورت» يجرى وراء عربة الرش حين كان «الرجل الكبير» قائدا أو مديرا أو عميدا، وكيف أنه «كان ينتظر لساعات فى مكتبه حتى يقابله».
وإذا شاءت الأقدار وكنت طالبا لأحد الأساتذة الكبار أو الصغار، فسيظل يذكرك حتى مماته أنك كنت تلميذه بصرف النظر عن تقديرك له من عدمه، رغم أن الأقدار أو المجموع هو الذى دفعك فى يوم من الأيام إلى أن تكون طالبا عنده، متناسيا أن الأستاذية ليست علاقة وظيفية إنما هى علاقة طوعية يعتبر فيها الطالب أن هذا الأستاذ أضاف إليه وعلمه شيئا، وليس هو الرجل الذى فرض عليه مذكرات ماسخة أو ملأ رأسه بلغو لا علم فيه.
هذا القهر الجيلى أدى إلى جعل تمرد الأجيال الشابة فى مصر يأخذ أشكال غير صحية فى كثير من الأحيان، فراجت مسألة استئصال الأجيالاً الأكبر، وسمعنا مؤخرا عن مقولات تردد «من هو فوق السبعين يروح»، وبدت المشكلة وكأنها تحتاج فقط إلى استئصال الجيل الأكبر حتى تحل مشكلات جيل الوسط والجيل الشاب، ونسينا جميعا أن تلك العلاقة غير الصحية بين الأجيال مرشحة للتكرار مرة أخرى فى علاقة ما يعرف بالجيل الشاب وجيل الوسط (جيل الثلاثينيات والأربعينيات) مع الأجيال الصغيرة (جيل العشرينيات)، ما لم نحل النمط غير الصحى فى علاقة الأجيال بمصر، التى تحكمها علاقة وظيفة بيروقراطية أحيانا أو نظرة استعلائية تجاه الأصغر أحيانا أخرى.
أما المسألة الثانية فهى المتعلقة بأصول أوباما العرقية، فالرجل هو لأب مسلم أسود وأم مسيحية بيضاء، وهى المرة الأولى فى تاريخ أمريكا التى يترشح فيها رجل من أصول أفريقية، لرئاسة أكبر دولة فى العالم، خاصة أن هذا البلد لم يعرف المساواة الكاملة بين السود والبيض إلا فى عام ١٩٦٥، بعد أن خاضت الأقلية السوداء نضالا مدنيا وديمقراطيا ملهما، أدى فى النهاية إلى توقيع الرئيس ليندون جونسون فى ٢ يوليو ١٩٦٤ «مرسوم الحقوق المدنية»، وفى العام التالى أقر حق المشاركة السياسية فى «مرسوم حقوق الاقتراع» فى قانون صدر فى ٦ أغسطس ١٩٦٥ لتتوج نضالات الأقلية السوداء السلمية بالنجاح.
والمؤكد أن بلداً مثل مصر قنن الحقوق المتساوية بين مواطنيه منذ دستور ١٩٢٣، وكانت قيم التسامح والديمقراطية واحترام حقوق الأقليات سابقة فى مصر بعقود ما جرى فى المجتمع الأمريكى، ولكن المفارقة أن الأخير نجح فى أقل من نصف قرن أن يحقق مافشلنا فى تحقيقه على مدار أكثر من ٨٥ عاما، بل إن التحول الكبير الذى حدث تمثل فى عدم طرح الرئيس الأمريكى القادم باراك أوباما خطابا عرقيا أو طائفيا مغلقا، إنما طرح خطابا مدنيا وديمقراطيا حديثا مثّل تطويرا وإضافة لخطاب قادة الحقوق المدنية والديمقراطية من السود الأمريكيين (مارتن لوثر كينج) حين تبنوا فى فترات النضال ضد العنصرية البيضاء خطابا من أجل المساواة فى الحقوق، وليس خطابا عرقيا أو طائفيا يحكمه كثير من العقد تجاه غالبية السكان.
ومن المؤكد أن الذى جعل خطاب أوباما بهذا الشكل الديمقراطى، أنه تربى فى ظل نظام لديه مؤسسات سمحت له أن يصعد فى السلم السياسى والوظيفى بهذه السرعة دون عقد أو إحساس بالاضطهاد رغم أصوله العرقية الأفريقية، ودفعته بالتالى أو بالنتيجة أن يتبنى خطاباً سياسياً ديمقراطياً يدعم الحقوق المدنية للأمريكيين بصرف النظر عن أعراقهم وديانتهم، اطمأن إليه الجانب الأكبر من البيض الأمريكيين، واعتبروه حاملا لنفس القيم الأمريكية التى تربى عليها معظمهم، فأعطوه ثقتهم وأصواتهم.
والمؤكد أن موضوع الأقليات فى مصر أكثر تعقيدا من الحالة الغربية عامة والأمريكية خاصة، فمصر ليس بها دولة قانون، وبالتالى إذا وجد «أوباما مسيحى» فى مصر واجتهد وتصالح مع ثقافة غالبية مواطنى بلده من المسلمين، فلن يحقق أى نجاح سياسى لأنه أولا مجال مغلق فى وجه المسلمين والمسيحيين معا، كما أنه لن يكافأ على انفتاحه السياسى والثقافي، إنما بالتأكيد سيعاقب على ذلك لأنه تجرأ وأصبح عقلانيا وليس طائفيا متعصبا.
هذا الوضع السياسى دعمه مناخ ثقافى واجتماعى كرس عزلة المسيحيين خلف أسوار الكنائس، وتمثل فى الخطاب الإسلامى الرائج فى العقود الثلاثة الأخيرة، فهو من ناحية خطاب غير متسامح ومنفر لأغلب المسيحيين ولبعض المسلمين أيضا، ودفع بكثير من المسيحيين إلى الانغلاق وترديد مقولات عنصرية كارهة للمسلمين والإسلام (المكون الأساسى للثقافة المصرية)، وحتى اللغة العربية لم تسلم من الذين يقولون إنهم علمانيون، وذلك لصالح الترويج لعامية ركيكة وبلهاء فى بعض الأحيان، ليتحول الدور الديمقراطى الذى كان منوطا بتيار الحقوق المدنية والمساواة فى مصر أن يلعبه إلى دور أيديولوجى كاره لثقافة وطنه ولغته.
وهذا ربما الفارق بين تجربة أوباما وتجارب رموز الأقليات العرقية والدينية فى مجتمعاتنا العربية وخاصة فى مصر، فأمريكا مثل باقى البلدان الديمقراطية وضعت نظاماً قانونياً وسياسياً منذ ٤٣ عاما فقط قائما على المساواة وعدم التمييز بين المواطنين واحترمته، وهو الأمر الذى «أنتج» فى النهاية مشروع رئيس أسود، كان أجداده ضحية الاضطهاد والتمييز، ولكنه لم يجتر الماضى ويتباكى عليه، ولم يحمل كراهية لأغلبية سكان وطنه من البيض لأنهم فى يوم من الأيام عذبوا أجداده.
لقد فشلنا أن نبنى فى بلادنا نظما ديمقراطية تحترم القانون، وبالتالى أنتج المجتمع العشوائى مسلمين لم يتسامحوا ليس فقط مع المسيحيين إنما مع بعضهم البعض، وساعدوا بهمة يحسدون عليها فى دفع المسيحيين نحو العزلة والتعصب وأحيانا العنصرية والكراهية.
أتمنى ألا ننتظر قرنا حتى نرى أوباما آخر فى مصر