الأضحية الرقمية تغزو مكة...
حدثني أحد معارفي في ألمانيا عما شاهده وسمعه في أول أيام عيد الأضحى المبارك في مكة: أنهار من الدماء ورؤوس الخرفان المذبوحة على أرصفة الشوارع، وجماهير من البشر احتشدت هنا وهناك لمشاهدة عملية ذبح "على المباشرة". من المحتمل أن يثير هذا الوصف حفيظة المدافعين عن حقوق الحيوان في ألمانيا، وبعض من يتابعون يومياتي على صفحة دويتشه فيله على الإنترنت. أقول لهذه النفوس الرقيقة: اطمئنوا وتابعوا القراءة.
عيد الأضحى المبارك في مكة هذا العام لا يذكر بأي منظر لمذبحة، هذا ما لمسته بنفسي. فعملية نحر الأضاحي الآن لا تتم إلا في المذابح الكبيرة، إما بواسطة جزار أو تحت إشرافه المباشر. لقد ولّت أيام الذبح في الشوارع، والأسواق، وحتى في المساجد!
أهم أيام النحر كان يوم أمس (16 نوفمبر/ تشرين الثاني)، أول أيام عيد الأضحى المبارك، إضافة إلى اليومين الذين يتبعانه . حتى اللحظة لم أشاهد قطرة دم واحدة، وربما سبب هذا هو "موضة" جديدة بدأت بالانتشار في مكة، ولدى المسلمين من أصول تركية وعربية في ألمانيا أيضاً، ألا وهي "الأضحية الرقمية".
أعلم بأن هذه التسمية تبدو مضحكة للوهلة الأولى، لكنها شيء عملي للغاية، فكل مسلم قادر مطالب بأن يضحي بذبيحة في عيد الأضحى، ويوزع لحمها على الفقراء والمحتاجين، لكن معظم فقراء العالم يعشون في دول افريقية أو أسيوية.
فكرة "الأضحية الرقمية" تتلخص في التالي: يدفع المضحي بواسطة تحويلة بنكية حوالي 400 ريال سعودي (78 يورو تقريباً) لمنظمة خيرية، تتولى عنه شراء وذبح الأضحية، ومن ثم توزيع لحمها على الفقراء والمحتاجين في عدد من الدول الفقيرة حول العالم. أحد المواطنين السعوديين حدثني قائلاً: "إنها فكرة ممتازة، خصوصاً وأننا لا نعرف ماذا نفعل بكل لحوم الأضاحي المكدسة في الثلاجات، والتي نحرها حجاج بيت الله الحرام. هناك كثيرون بحاجة ماسة إلى هذه اللحوم في دول آخرى".
أول مرة أرجم فيها الشيطان
لم أتمكن كصحفي من ذبح خروف، سواء بشكل مباشر أو رقميّ! لكنني لم أرد تفويت فرصة رجم الشيطان، حتى لو بشكل رمزي، فرمي الجمرات يعتبر أحد أركان الحج، الذي يتم القيام به في أيام عيد الأضحى. ويقوم الحاج بالتكبير والدعاء لله مع كل جمرة يرميها، وذلك تكفيراً عن ذنوبه. الجمرات يجمعها الحجاج مسبقاً أثناء مبيتهم في مزدلفة، ويبلغ وزنها مجتمعة حوالي 300 طن، تعيد السلطات السعودية جمعها بعد انتهاء موسم الحج ونقلها إلى مزدلفة استعداداً للعام المقبل.
الشيطان الذي يرجمه الحجاج عبارة عن "حائط"، وهو في الحقيقة جزء من أحد الأعمدة الإسمنتية الضخمة الثلاثة التي يرتكز عليها جسر الجمرات. بصراحة هذا الجسر "نعمة" للحجاج، إذ تم بناؤه قبل بضع سنوات بمشاركة مهندسين ألمان، ويتكون من خمسة مستويات توفر للحجاج أماناً أكثر ومكاناً أوسع للتحرك. الشيء الوحيد الذي لم يصبح له مجال منذ بناء الجسر هو حالات التدافع الناتجة عن الزحام الشديد، التي أدت في السابق إلى موت مئات من الحجاج.
كل شعرة تزيدك حسنة وتسقط عنك سيئة
أثناء أدائي للتحلل الأصغر – الذي يعني إسقاط صفة الإحرام عن الحاج ما عدا الجماع ودواعيه – التقيت بآرون من إندونيسيا. يحمل آرون في يده مقصاً ويريد حلق شعر رأسه بأكمله، كالكثير من الرجال هنا. ويعتبر حلق شعر الرأس أو تقصيره أحد مناسك الحج أيضاً، التي يؤديها الحاج بعد رمي الجمرات. حول مغزى حلق الشعر يقول آرون: "كل شعرة في رأسي تمثل سيئة ارتكبتها، وعندما أحلق كل شعر رأسي، فسأصبح كالطفل الذي ولد حديثاً بدون ذنوب".
أستمع إلى الشاب الإندونيسي وأتذكر باستغراب بعض الرجال الذين قدموا إلى مكة حليقي الرؤوس، سواء بسبب تفضيلهم لهذه التسريحة أو لأنهم فقدوا شعرهم بسبب العمر أو مرض ما. معظمهم يمررون آلة الحلاقة على رؤوسهم مرة أخرى بشكل رمزي. بعد حلق الشعر يستبدل الحجاج ملابس الإحرام بثيابهم العادية... أخيراً أستطيع العودة إلى الجينز وقميص البولو!
ملابس إحرام "صنع في الصين"
هل تصدقون أن كثيراً من ملابس الإحرام مصنوعة في الصين؟ الحاج محمد من الصين لفت نظري إلى هذه الحقيقة، وذلك بفخر شديد. محمد ينتمي إلى الأقلية المسلمة التي تعيش في الصين وتتعرض أيضاً إلى قمع الحكومة. لكن هذا لا يعني أنه لا يشعر بأنه صيني، مضيفاً: "أتمنى أن تصبح الصين أكبر اقتصاد في العالم". لا أظن بأن أمنية محمد هذه بعيدة المنال.
وبالحديث عن الصين، أود أن أسجل إعجابي المستمر بـ"عالمية" موسم الحج، وأن أرد على سؤال لمتابع موقع دويتشه فيله، ديتليف أبيبيه، الذي أرسل الاستفسار التالي: "ما هو انطباعك حول غالبية الحجاج؟ هل تجدهم منفتحين ومتسامحين، أم متعصبين دينياً؟" أنا أميل للصفة الأولى، فلم ألتق حتى الآن حاجة أو حاجاً يتحدث بتعصب ديني. معظم الناس هنا فرحون بمشاركتهم لحجاج من جميع أنحاء العالم في معايشة أحد أهم الأحداث الدينية في حياتهم. أما بالنسبة لتفسير الحكومة السعودية للإسلام فهو شيء آخر، ومحافظ للغاية.
مباح في مكة... محظور خارجها
حتى رأيي هذا تغير بعض الشيء عندما لاحظت بعض الأمور في مكة، فعلى سبيل المثل العلاقة بين الرجل والمرأة، التي تتسم بفصل صارم في المجتمع السعودي، يتم تخفيف القيود عليها أثناء موسم الحج، حتى وإن كان هذا التخفيف يقتصر على الإطار الخاص. مثال آخر هو بيع السجائر، الذي يمنع منعاً باتاً في مكة، لكن التدخين بحد ذاته ليس ممنوعاً.
متابعة دويتشه فيله ميلينا سألتني سؤالاً لم أستطع إيجاد جواب واف له، ألا وهو سبب منع النساء الحاجات من تغطية وجوههن. بالفعل، فإن الوجه يجب أن يكون ظاهراً أثناء الحج، بعكس ما هو سائد في المجتمع السعودي. أحد علماء الدين هنا أجابني بالقول إن هذا المنع قد يرجع في أصله إلى زوجات النبي محمد، وخصوصاً زوجته عائشة، اللواتي لم يرتدين النقاب. رأيي الشخصي هو أن هذا قد يشكل دليلاً واضحاً على عدم وجود سبب ديني لارتداء النقاب، وأن ارتداءه هو نتيجة للعادات والتقاليد.
علي المخلافي