ما عقاب من حلف بكتاب الله كذب ؟ يجيب على هذه الفتوى الدكتور عبد الله سمك : هذا هو: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَيُقَالُ لَهَا الزُّورُ وَالْفَاجِرَةُ ، والإتيان باليمين الغموس حرام ، ومن الكبائر بلا خلافٍ ، لما فيه من الجرأة العظيمة على اللّه تعالى .
قال الإمام الصنعاني :اعْلَمْ أَنَّ الْيَمِينَ إمَّا أَنْ تَكُونَ بِعَقْدِ قَلْبٍ وَقَصْدٍ أَوْ لَا ، بَلْ تَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ بِغَيْرِ قَلْبٍ وَإِنَّمَا تَقَعُ بِحَسَبِ مَا تَعَوَّدَهُ الْمُتَكَلِّمُ سَوَاءٌ كَانَتْ بِإِثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ : ( وَاَللَّهِ ، وَبَلَى وَاَللَّهِ ، وَلَا وَاَللَّهِ ) فَهَذِهِ هِيَ اللَّغْوُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ : { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } .
وَإِنْ كَانَتْ عَنْ عَقْدِ قَلْبٍ فَيُنْظَرُ إلَى حَالِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَيَنْقَسِمُ بِحَسَبِهِ إلَى أَقْسَامٍ خَمْسَةٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الصِّدْقِ أَوْ مَعْلُومَ الْكَذِبِ أَوْ مَظْنُونَ الصِّدْقِ أَوْ مَظْنُونَ الْكَذِبِ أَوْ مَشْكُوكًا فِيهِ ، ( فَالْأَوَّلُ ) يَمِينٌ بَرَّةٌ صَادِقَةٌ وَهِيَ الَّتِي وَقَعَتْ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ، نَحْوُ : { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ } وَوَقَعَتْ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَفَ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ مَوْضِعًا وَهَذِهِ هِيَ الْمُرَادَةُ فِي حَدِيثِ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُحْلَفَ بِهِ } وَذَلِكَ لِمَا يَتَضَمَّنُ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى .
( وَالثَّانِي ) وَهُوَ مَعْلُومُ الْكَذِبِ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَيُقَالُ لَهَا الزُّورُ وَالْفَاجِرَةُ وَسُمِّيَتْ فِي الْأَحَادِيثِ : يَمِينَ صَبْرٍ وَيَمِينًا مَصْبُورَةً ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ سُمِّيَتْ غَمُوسًا لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي النَّارِ فَعَلَى هَذَا هِيَ فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَقَدْ فَسَّرَهَا فِي الْحَدِيثِ بِاَلَّتِي يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا لَا تَكُونُ غَمُوسًا إلَّا إذَا اقْتَطَعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا أَنَّ كُلَّ مَحْلُوفٍ عَلَيْهِ كَذِبًا يَكُون غَمُوسًا وَلَكِنَّهَا تُسَمَّى فَاجِرَةً .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَبَهْتُ مُؤْمِنٍ ،وَالْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ ) .
وَالْيَمِينُ الصَّابِرَةُ : أَيْ الَّتِي أُلْزِمَ بِهَا وَصَبَرَ عَلَيْهَا وَكَانَتْ لَازِمَةً لِصَاحِبِهَا مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا التَّوْبَةَ مِنْهَا ، وَلَا تَوْبَةَ فِي مِثْلِ الْقَتْلِ إلَّا بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ لِلْقَوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٌ الْجُهَنِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إنَّ مِنْ الْكَبَائِرِ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ ، وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ ، وَالْيَمِينَ الْغَمُوسَ ، وَمَا حَلَفَ حَالِفٌ بِاَللَّهِ يَمِينَ صَبْرٍ ، فَأَدْخَلَ فِيهَا مِثْلَ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ إلَّا جَعَلَهُ اللَّهُ نُكْتَةً فِي قَلْبِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَالتِّرْمِذِيُّ قال الشّيخ أبو منصورٍ الماتريديّ : كان القياس عندي أنّ متعمّد الحلف باللّه تعالى على الكذب يكفر ، لأنّ اليمين به عزّ وجلّ جعلت لتعظيمه ، والمتعمّد لليمين به على الكذب مستخفّ به ، لكنّه لا يكفر ، لأنّه ليس غرضه الجرأة على اللّه والاستخفاف به ، وإنّما غرضه الوصول إلى ما يريده من تصديق السّامع له.
ونظير هذا ما يروى أنّ رجلاً سأل أبا حنيفة قائلاً : إنّ العاصي يطيع الشّيطان ، ومن أطاع الشّيطان فقد كفر ، فكيف لا يكفر العاصي ؟ فقال : إنّ ما يفعله العاصي هو في ظاهره طاعة للشّيطان ، ولكنّه لا يقصد هذه الطّاعة فلا يكفر ، لأنّ الكفر عمل القلب ، وإنّما يعدّ مؤمناً عاصياً فقط.
ثمّ إنّه لا يلزم من كونها من الكبائر أن تكون جميعها مستويةً في الإثم ، فالكبائر تتفاوت درجاتها حسب تفاوت آثارها السّيّئة ، فالحلف الّذي يترتّب عليه سفك دم البريء ، أو أكل المال بغير حقٍّ أو نحوهما ، أشدّ حرمةً من الحلف الّذي لا يترتّب عليه شيء من ذلك.
إنّ حرمة اليمين الغموس هي الأصل ، فإذا عرض ما يخرجها عن الحرمة لم تكن حراماً ، ويدلّ على هذا.
أوّلاً : قوله تعالى : {مَنْ كَفَرَ باللّه مِنْ بعد إيمانه إلاّ من أُكْرِه وقَلْبُه مُطْمَئِنّ بالِإيمانِ ولكنْ مَنْ شَرَحَ بالكفرِ صَدْراً فعليهم غَضَبٌ من اللّه ولهم عذابٌ عظيمٌ}.
فإذا كان الإكراه يبيح كلمة الكفر فإباحته لليمين الغموس أولى.
ثانياً : آيات الاضطرار إلى أكل الميتة وما شاكلها ، كقول تعالى : {فَمَنْ اضْطُرَّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ فلا إثمَ عليه إنَّ اللّهَ غفورٌ رحيمٌ}.
فإذا أباحت الضّرورة تناول المحرّمات أباحت النّطق بما هو محرّم.
وإليك نصوص بعض المذاهب في بيان ما تخرج به اليمين الغموس عن الحرمة.
أ - قال الدّردير في أقرب المسالك وشرحه ، والصّاويّ في حاشيته ما خلاصته : لا يقع الطّلاق على من أكره على الطّلاق ولو ترك التّورية مع معرفته بها ، ولا على من أكره على فعل ما علّق عليه الطّلاق.
وندب أو وجب الحلف ليسلم الغير من القتل بحلفه وإن حنث هو ، وذلك فيما إذا قال ظالم : إن لم تطلّق زوجتك ، أو إن لم تحلف بالطّلاق قتلت فلاناً ، قال ابن رشدٍ : إن لم يحلف لم يكن عليه حرج ، أي لا إثم عليه ولا ضمان ، ومثل الطّلاق : النّكاح والإقرار واليمين.
ب - قال النّوويّ : الكذب واجب إن كان المقصود واجباً ، فإذا اختفى مسلم من ظالمٍ ، وسأل عنه وجب الكذب بإخفائه ، وكذا لو كان عنده أو عند غيره وديعة ، وسأل عنها ظالم يريد أخذها وجب عليه الكذب بإخفائها ، حتّى لو أخبره بوديعةٍ عنده فأخذها الظّالم قهراً وجب ضمانها على المودع المخبر ، ولو استحلفه عليها لزمه أن يحلف ، ويورّي في يمينه ، فإن حلف ولم يورّ حنث على الأصل وقيل : لا يحنث.
ج - وقال موفّق الدّين بن قدامة : من الأيمان ما هي واجبة ، وهي الّتي ينجّي بها إنساناً معصوماً من هلكةٍ ، كما روي عن سويد بن حنظلة قال : » خرجنا نريد النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حجرٍ ، فأخذه عدوّ له ، فتحرّج القوم أن يحلفوا ، فحلفت أنا : أنّه أخي ، فذكرت ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم صدقت ، المسلم أخو المسلم « فهذا ومثله واجب ، لأنّ إنجاء المعصوم واجب ، وقد تعيّن في اليمين فيجب ، وكذلك إنجاء نفسه ، مثل : أن تتوجّه عليه أيمان القسامة في دعوى القتل عليه وهو بريء .
في الحكم المترتّب على تمام الغموس ثلاثة آراءٍ:
الرّأي الأوّل : أنّها لا كفّارة عليها سواء أكانت على ماضٍ أم حاضرٍ ، وكلّ ما يجب إنّما هو التّوبة ، وردّ الحقوق إلى أهلها إن كان هناك حقوق ، وهذا مذهب الحنفيّة.
الرّأي الثّاني : أنّ فيها الكفّارة ، وهذا مذهب الشّافعيّة ، ويلاحظ أنّهم في تعريف الغموس خصّوها بالماضي ، لكن من المعلوم أنّ إيجاب الكفّارة في الحلف على الماضي يستلزم إيجابها في الحلف على الحاضر والمستقبل ، لأنّهم قالوا : إنّ كلّ ما عدا اللّغو معقود.
الرّأي الثّالث : التّفصيل ، وقد أوضحه المالكيّة بناءً على توسّعهم في معناها ، فقالوا : من حلف على ما هو متردّد فيه أو معتقد خلافه فلا كفّارة عليه إن كان ماضياً ، سواء أكان موافقاً للواقع أم مخالفاً ، وعليه الكفّارة إن كان حاضراً أو مستقبلاً وكان في الحالين مخالفاً للواقع.
وإلى التّفصيل ذهب الحنابلة أيضاً ، حيث اقتصروا في تعريف الغموس على ما كانت على الماضي ، وشرطوا في كفّارة اليمين أن تكون على مستقبلٍ.
فيؤخذ من مجموع كلامهم أنّ الحلف على الكذب عمداً لا كفّارة فيه إن كان على ماضٍ أو حاضرٍ ، وفيه الكفّارة إن كان على مستقبلٍ.
احتجّ القائلون بوجوب الكفّارة في الغموس بأنّها مكسوبة معقودة ، إذ الكسب فعل القلب ، والعقد : العزم ، ولا شكّ أنّ من أقدم على الحلف باللّه تعالى كاذباً متعمّداً فهو فاعل بقلبه وعازم ومصمّم ، فهو مؤاخذ. وقد أجمل اللّه عزّ وجلّ المؤاخذة في سورة البقرة فقال : {لا يؤاخذُكم اللّه باللّغو في أيمانِكم ولكنْ يؤاخذُكم بما كسبتْ قلوبُكم} وفصّلها في سورة المائدة ، فقال : {لا يؤاخذُكم اللّه باللّغو في أيمانِكم ولكن يؤاخذُكم بما عقّدْتُم الأيمانَ ، فكفّارته إطعامُ عشرةِ مساكين} .
على أنّ اليمين الغموس أحقّ بالتّكفير من سائر الأيمان المعقودة ، لأنّ ظاهر الآيتين ، ينطبق عليها من غير تقديرٍ ، فإنّ اللّه عزّ وجلّ جعل المؤاخذة في سورة البقرة على الكسب بالقلب ، وفي سورة المائدة على تعقيد الأيمان وإرادتها ، وهذا منطبق أعظم انطباقٍ على اليمين الغموس ، لأنّها حانثة من حين إرادتها والنّطق بها ، فالمؤاخذة مقارنة لها ، بخلاف سائر الأيمان المعقودة ، فإنّه لا مؤاخذة عليها إلاّ عند الحنث فيها ، فهي محتاجة في تطبيق الآيتين عليها إلى تقديرٍ ، بأن يقال : إنّ المعنى : ولكن يؤاخذكم بالحنث فيما كسبت قلوبكم ، وبالحنث في إيمانكم المعقودة ، وكذلك قوله تعالى : {ذلك كفّارةُ أيمانِكم إذا حلفْتُم} معناه : إذا حلفتم وحنثتم.
واستدلّ الحنفيّة ومن وافقهم على عدم وجوب الكفّارة في اليمين الغموس بما يأتي : أوّلاً : قال اللّه تعالى : {إنّ الّذين يشترون بعَهْدِ اللّه وأيمانِهم ثمناً قليلاً أولئك لا خَلاقَ لهم في الآخرةِ ولا يكلّمُهُمُ اللّه ولا ينظرُ إليهم يومَ القيامةِ ولا يزكّيهم ولهم عذابٌ أليم}.
ثانياً : ما رواه الأشعث بن قيسٍ وعبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنهما كلّ منهما عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : » من حلف على يمين صَبْرٍ يقتطع بها مالَ امرئٍ مسلمٍ هو فيها فاجرٌ لقيَ اللّه وهو عليه غضبان «.
ووجه الاستدلال بالآية والحديثين وما معناهما : أنّ هذه النّصوص أثبتت أنّ حكم الغموس العذاب في الآخرة ، فمن أوجب الكفّارة فقد زاد على النّصوص.
ثالثاً : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » خمسٌ ليس لهنّ كفّارةٌ : الشّركُ باللّه عزّ وجلّ ، وقتلُ النّفسِ بغيرِ حقٍّ ، وبهتُ مؤمنٍ ، والفرارُ من الزّحفِ ، ويمينٌ صابرة يقتطع بها مالاً بغير حقٍّ «.
( الثَّالِثُ ) مَا ظُنَّ صِدْقُهُ وَهُوَ قِسْمَانِ : الْأَوَّلُ مَا انْكَشَفَ فِيهِ الْإِصَابَةُ فَهَذَا أَلْحَقَهُ الْبَعْضُ بِمَا عُلِمَ صِدْقُهُ إذْ بِالِانْكِشَافِ صَارَ مِثْلَهُ ( وَالثَّانِي ) مَا ظُنَّ صِدْقُهُ وَانْكَشَفَ خِلَافُهُ وَقَدْ قِيلَ لَا يَجُوزُ الْحَلِفُ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ لِأَنَّ وَضْعَ الْحَلِفِ لِقَطْعِ الِاحْتِمَالِ فَكَأَنَّ الْحَالِفَ يَقُولُ : أَنَا أَعْلَمُ مَضْمُونَ الْخَبَرِ وَهَذَا كَذِبٌ فَإِنَّهُ إنَّمَا حَلَفَ عَلَى ظَنِّهِ .
( الرَّابِعُ ) مَا ظُنَّ كَذِبُهُ وَالْحَلِفُ عَلَيْهِ مُحَرَّمٌ .
( الْخَامِسُ ) مَا شَكُّ فِي صِدْقِهِ وَكَذِبِهِ وَهُوَ أَيْضًا مُحَرَّمٌ .