مؤتمر القمة

بسم الله الرحمن الرحيم

حين أكون مع غيرك ينتابني قلق شديد، وأحس بدورة الزمن الممضة، وأؤمن أن اللقاء مهما طال سيعقبه الفراق بكل مرارته وقسوته، وأن بعد الفراق وحشة وفراغ، وألسنة حداد تعريني من كل مزية، وتلصق بي كل نقيصة، فأغدو كشجرة جرداء تسوطها الرياح دون رحمة، إن هي إلا أغصان شبه ميتة تستجدي نظرة عطف، وتستمطر شآبيب الرحمة...

وحين أكون معك، أستشعرا خدرا لذيذا يسري في عروقي، وينحدر إلى أعمق نقطة في وجودي، أما دورة الزمن فتتلاشى، وأؤمن أن اللقاء بيننا مهما طال فهو باق، ولن يعقبه فراق ووحشة، وحين تنفض الجلسة أعرف أنك ستحدث ملائكتك عني، وستنسب إلي كل فضيلة، وتبرئني من كل نقيصة، وستكسوني ثوب الرضا كشجرة عذراء لبست في فصل الربيع ولأول مرة، ثوبا سندسيا تزهو به أمام مخلوقات الله...

أنا أعلم أنك تسترني إذا عريت، وتشبعني إذا جعت، وتغنيني إذا افتقرت، ولا تفضحني إذا ضبطتني متلبسة بذنب من الذنوب أو إثم من الآثام...

أعلم أنني من صنع يديك المقدستين، وأنك نقشت اسمك على صحيفة قلبي، وأنك تغار علي من كل ما سواك، وتريدني خالصة لك، فهل يليق بي هذا الشرف العظيم بمكانة وضيعة من عالم الماديات؟ وهل يعقل أن أعقد جلسة المتغيرات والمتحولات، وأوقع على صفقة خاسرة مع الطين والتراب، وأترك الثابت الباقي الخالد الذي لا يتحول ولا يتغير؟

آه! لقد نمت روحي نموا غريبا وأنا في حضرتك، حتى احتلت مساحات إضافية من أرضية جسدي ونفسي، وبنت مستعمرات لها فوق مرتفعات القلب ومنحدرات النفس، أكرم بها من مستعمرات! لقد فتحت الأبواب للفاتح الجديد، وتركته يطهر أرضه المدنسة، فيحولها إلى بقعة مقدسة، ويرفع فوق روابيها علم التطهير، ويعلن ذاته سلطانا على جميع ممتلكاتي، فخرجت النفس ذليلة، لكنها ما لبثت أن عادت بعد أيام تطلب الصلح، فاستجابت الروح لطلبها بشرط أن تكون حيادية، وهكذا عقد مؤتمر قمة بين الروح والنفس، وتمت المصالحة، ووضعت مقررات يلتزم بها الطرفان تنص على ما يلي:
1- الروح صاحبة السلطان المطلق.
2- النفس تتلقى الأوامر من الروح وحدها، فالهوى مرفوض، والشيطان ملقى في سلة المهملات، والغفلة وراء القضبان، والشهوة المحرمة في قمقم مختوم بالشمع الأحمر.
3- إذا ارتكبت النفس أي مخالفة، ولم تندم وتقدم اعتذارها للروح ستعاقب بحجب النور عنها إلى أن تعلن التوبة والندم.

إنه يوم الفتح المبين، حين يعقد الإنسان مثل هذا الصلح بين روحه ونفسه، ويقارب بين خصمين يشكلان قطبين متنافرين يتنازعان حياته، ويبددانها في كل الاتجاهات، وهذا ما عبر عنه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حين عاد من الجهاد فقال: ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر )وهو جهاد النفس، وحد اتجاهك يا أخي، وسر في طريق واحد هو طريق الروح لأنها الجزء المقدس فيك، ولأنها سر الله المودع بين جوانحك...

دع عنك النفس ومطباتها، دع عنك إغراءاتها وشهواتها، فهي مراهقة أبدا، جائعة أبدا، تريد أن تروي لذاتها بطريق مشروع أو غير مشروع، تحاول الكسب الشريف أو غير الشريف لترفل في ثياب اللذة والمتعة المادية الزائلة، فإذا ما وجدتها منشرحة راضية فاعلم انها تعمل من ورائك مالا يرضيك ولا يسرك أن تدري به، اجعل سؤالك الدائم لها: من أين لك هذا؟ لا تهادنها فهي ألد أعدائك...

يا أخي! قد تنفق جزءا من عمرك جريا وراء عدو خارجي، قد يكون جرثومة مرض تنهش عضوا من أعضائك، فتدأب في محاربتها عن طريق الأدوية أو غيرها حتى تقضي عليها وتعود سليما معافى، وقد يكون عدوك من فصيلة ابن آدم فتجرد أسلحتك جميعها لمواجهته والتغلب عليه، هؤلاء جميعهم أعداء، ولكن لاخوف منهم لأنك تعرف أنهم أعداء، ولكن الخوف من تلك النفس الجميلة في مظهرها، الخبيثة في حقيقتها، إنها عدو مقنع قلما تنتبه إليه لأن القرب حجاب، فاحذر هذا العدو الذي وصفه الله جل وعلا في محكم تنزيله: (( إن النفس امارة بالسوء )) وقال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لعل أعدى اعدائك نفسك التي بين جنبيك )