32- 40 - تشويه الشهداء:
وكان هذا آخر هجوم قام به المشركون ضد النبي صلَّى الله عليه وسلم. ولما لم يكونوا يعرفون من مصيره شيئاً -بل كانوا على شبه اليقين من قتله - رجعوا إلى مقرهم، وأخذوا يتهيأون للرجوع إلى مكة ، واشتغل من اشتغل منهم -وكذا اشتغلت نساؤهم - بقتلى المسلمين، يمثلون بهم، ويقطعون الآذان والأنوف والفروج، ويبقرون البطون، وبقرت هند بنت عتبة كبد حمزة، فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها، فلفظتها، واتخذت من الآذان والأنوف خدماً -خلاخيل - وقلائد.
مدى إستعداد المسلمي للقتال
32- 42 - بعد انتهاء الرسول صلَّى الله عليه وسلم إلى الشعب:
ولما استقر رسول الله صلَّى الله عليه وسلم في مقره في الشعب خرج علي بن أبي طالب، حتى ملأ درقته ماء من المهراس -قيل: هو صخرة منقورة تسع كثيراً وقيل: اسم ماء بأحد - فجاء به إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم ليشرب منه، فوجد له ريحاً فعافه، فلم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول: اشتد غضب الله على من دمى وجه نبيه.
وقال سهل: والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، ومن كان يسكب الماء وبما دووي؟ كانت فاطمة ابنته تغسله، وعلي بن أبي طالب يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير، فأحرقتها، فألصقتها، فاستمسك الدم.
وجاء محمد بن مسلمة بماء عذب سائغ، فشرب منه النبي صلَّى الله عليه وسلم، ودعا له بخير، وصلى الظهر قاعداً من أثر الجراح، وصلى المسلمون خلفه قعوداً.
32- 43 - شماتة أبي سفيان بعد نهاية المعركة وحديثه مع عمر:
ولما تكامل تهيؤ المشركين للانصراف، أشرف أبو سفيان على الجبل، فنادى: أفيكم محمد؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه -وكان النبي صلَّى الله عليه وسلم منعهم من الإجابة -ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قيام الإسلام بهم. فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، فلم يملك عمر نفسه أن قال: يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله ما يسوءك، فقال: قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني.
ثم قال: اعل هبل.
فقال النبي صلَّى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ فقالوا: فما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل.
ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم.
فقال النبي صلَّى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم.
ثم قال أبو سفيان: أنعمت فعال، يوم بيوم بدر ، والحرب سجال.
فاجاب عمر: وقال: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
ثم قال أبو سفيان: هلم إلي يا عمر، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: ائته فانظر ما شأنه؟
فجاءه، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمداً؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليستمع كلامك الآن. قال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر.
32- 44 - مواعدة التلاقي في بدر:
قال ابن إسحاق: ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدر العام القابل. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه، قل: نعم، هو بيننا وبينك موعد.
32- 45 - التثبت من موقف المشركين:
ثم بعث رسول الله صلَّى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ وما يريدون؟ فإن كانوا قد جنبوا الخيل، وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة .. وإن كانوا قد ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة ، والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها، ثم لأناجزنهم. قال: علي فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووجهوا إلى مكة.
32- 46 - تفقد القتلى والجرحى:
وفرغ الناس لتفقد القتلى والجرحى بعد منصرف قريش . قال زيد بن ثابت: بعثني رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع، فقال لي: إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيته وهو بآخر رمق، وفيه سبعون ضربة: ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت: يا سعد، إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ فقال: وعلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم السلام، قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته.
ووجدوا في الجرحى الأصيرم -عمرو بن ثابت - وبه رمق يسير، وكانوا من قبل يعرضون عليه الإسلام فيأباه، فقالوا: إن هذا الأصيرم ما جاء به؟ لقد تركاه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه: ما الذي جاء بك؟ أحدب على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله، ثم قاتلت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلم حتى أصابني ما ترون، ومات من وقته، فذكروه ارسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فقال: هو من أهل الجنة. قال أبو هريرة: ولم يصل لله صلاة قط.
ووجدوا في الجرحى قزمان -وكان قد قاتل قتال الأبطال، قتل وحده سبعة أو ثمانية من المشركين - وجدوه قد أثبتته الجراحة، فاحتملوه إلى دار بني ظفر، وبشره المسلمون فقال: والله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت. فلما اشتد به الجراح نحر نفسه. وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر له: إنه من أهل النار -وهذا هو مصير المقاتلين في سبيل الوطنية أو في أي سبيل سوى إعلاء كلمة الله، وإن قاتلوا تحت لواء الإسلام، بل وفي جيش الرسول والصحابة.
وعلى عكس من هذا كان في القتلى رجل من يهود بني ثعلبة، قال لقومه: يا معشر يهود والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق. قالوا: إن اليوم يوم السبت. قال: لا سبت لكم. فأخذ سيفه وعدته، وقال: إن أصبت فمالي لمحمد، يصنع فيه ما شاء، ثم غدا فقاتل حتى قتل، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: مخيريق خير يهود.
32- 47 - جمع الشهداء ودفنهم:
وأشرف رسول الله صلَّى الله عليه وسلم على الشهداء، فقال: أنا شهيد على هؤلاء، إنه ما من جريح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة، يدمي جرحه اللون لون الدم، والريح ريح المسك.
وكان أناس من الصحابة قد نقلوا قتلاهم إلى المدينة ، فأمر أن يردوهم فيدفنوهم في مضاجعهم، وأن لا يغسلوا، وأن يدفنوا كما هم بثيابهم بعد نزع الحديد والجلود، وكان يدفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد، ويجمع بين الرجلين في ثوب واحد، ويقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشاروا إلى رجل قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، ودفن عبدالله بن عمرو بن حرام، وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة.
وفقدوا نعش حنظلة، فتفقدوه، فوجدوه في ناحية فوق الأرض يقطر منه الماء، فأخبر رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أصحابه أن الملائكة تغسله، ثم قال: سلوا أهله ما شأنه؟ فسألوا امرأته، فأخبرتهم الخبر، ومن هنا سمي حنظلة: غسيل الملائكة.
ولما رأى ما بحمزة -عمه وأخيه من الرضاعة - اشتد حزنه، وجاءت عمته صفية تريد أن تنظر أخاها حمزة، فأمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلم ابنها الزبير أن يصرفها، لا ترى ما بأخيها، فقالت: ولم؟ وقد بلغني أن قد مثل بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله. فأتته، فنظرت إليه، فصلت عليه -دعت له - واسترجعت واستغفرت له. ثم أمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بدفنه مع عبدالله بن جحش -وكان ابن أخته، وأخاه من الرضاعة.
قال ابن مسعود: ما رأينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلم باكياً قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب، وضعه في القبلة، ثم وقف على جنازته، وانتحب حتى نشع من البكاء والنشع: الشهيق.
وكان منظر الشهداء مريعاً جداً يفتت الأكباد. قال خباب: (إن ) حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء، إذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه حتى مدت على رأسه، وجعل على قدميه الإذخر.
وقال عبد الرحمن بن عوف: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، وكفن في بردة إن غطى رأسه بدت رجلاه، وإن غطى رجلاه بدا رأسه، وروي مثل ذلك عن خباب، وفيه: "فقال لنا النبي صلَّى الله عليه وسلم غطوا بها رأسه واجعلوا على رجله الإذخر ".
الرسول يثنى على ربه
الرجوع إلى المدينة
32- 50 - الرسول صلَّى الله عليه وسلم في المدينة:
وانتهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم مساء ذلك اليوم -يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3هـ - إلى المدينة . فلما انتهى إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة، فقال: اغسلي عن هذا دمه يا بنية، فو الله لقد صدقني اليوم. وناولها علي بن أبي طالب سيفه: فقال: وهذا أيضاً فاغسلي عنه دمه، فوالله لقد صدقني اليوم، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: لئن كنت صدقت القتال، لقد صدق معك سهل بن حنيف وأبو دجانة.
32- 51 - قتلى الفريقين:
اتفقت جل الروايات على أن قتلى المسلمين كانوا سبعين، وكانت الأغلبية الساحقة من الأنصار، فقد قتل منهم خمسة وستون رجلاً، واحد وأربعون من الخزرج ، وأربعة وعشرون من الأوس ، وقتل رجل من اليهود، وأما شهداء المهاجرين فكانوا أربعة فقط.
وأما قتلى المشركين فقد ذكر ابن إسحاق أنهم اثنان وعشرون قتيلاً، ولكن الإحصاء الدقيق -بعد تعميق النظر في جميع تفاصيل المعركة التي ذكرها أهل المغازي والسير، والتي تتضمن ذكر قتلى المشركين في مختلف مراحل القتال - يفيد أن عدد قتلى المشركين سبعة وثلاثون، لا إثنان وعشرون. والله أعلم.
32- 52 - حالة الطوارئ في المدينة:
بات المسلمون في المدينة -ليلة الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3ه ـ بعد الرجوع عن معركة أحد - وهم في حالة الطوارئ، باتوا - وقد أنهكهم التعب، ونال منهم أي منال - يحرسون أنقاب المدينة ومداخلها، ويحرسون قائدهم الأعلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم خاصة، إذ كانت تتلاحقهم الشبهات من كل جانب.
غزوة حمراء الأسد
32- 54 - القرآن يتحدث حول موضوع المعركة:
ونزل القرآن يلقي ضوءاً على جميع المراحل المهمة من هذه المعركة مرحلة مرحلة، ويدلي بتعليقات تصرح بالأسباب التي أدت إلى هذه الخسارة الفادحة، وأبدى النواحي الضعيفة التي لم تزل موجودة في طوائف أهل الإيمان بالنسبةإلى واجبهم في مثل هذه المواقف الحاسمة، وبالنسبة إلى الأهداف النبيلة السامية التي أنشئت للحصول عليها هذه الأمة، التي تمتاز عن غيرها بكونها خير أمة أخرجت للناس.
كما تحدث القرآن عن موقف المنافقين، ففضحهم، وأبدى ما كان في باطنهم من العداوة لله ولرسوله، مع إزالة الشبهات والوساوس التي كانت تختلج بقلوب ضعفاء المسلمين، والتي كان يثيرها هؤلاء المنافقون وإخوانهم اليهود -أصحاب الدس والمؤامرة - وقد أشار إلى الحكم والغايات المحمودة التي تمخضت عنها هذه المعركة.
نزلت حول موضوع المعركة ستون آية من سورة آل عمران تبتدئ بذكر أول مرحلة من مراحل المعركة: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} وتترك في نهايتها تعليقاً جامعاً على نتائج هذه المعركة وحكمتها قال تعالى: { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }.
32- 55 - الحكم والغايات المحمودة في هذه الغزوة:
قد بسط ابن القيم الكلام على هذا الموضوع بسطاً تاماً. وقال ابن حجر: قال العلماء: وكان في قصة أحد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة منها: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية، وشؤم ارتكاب النهي، لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم الرسول صلَّى الله عليه وسلم أن لا يبرحوا منه. ومنها أن عاة الرسل أن تبتلى وتكون لها العاقبة، والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائماً دخل في المؤمنين من ليس منهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انكسروا دائماً لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين لتمييز الصادق من الكاذب، وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفياً عن المسلمين، فلما جرت هذه القصة، وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول عاد التلويح صريحاً، وعرف المسلمون أن لهم عدواً في دورهم، فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم. ومنها: أن في تأخير النصر في بعض المواطن هضماً للنفس، وكسراً لشماختها، فلما ابتلي المؤمنون صبروا، وجزع المنافقون. ومنها أن الله هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها. ومنها أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقها إليهم. ومنها أنه أراد إهلاك أعدائه، فقيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه، فمحص بذلك ذنوب المؤمنين، ومحق بذلك الكافرين.
33- 1 - مقدمة السرايا والبعوث بين أحد والأحزاب:
كان لمأساة أحد أثر سيىء على سمعة المؤمنين، فقد ذهبت ريحهم، وزالت هيبتهم عن النفوس، وزادت المتاعب الداخلية والخارجية على المؤمنين، وأحاطت الأخطار بالمدينة من كل جانب، وكاشف اليهود والمنافقون والأعراب بالعداء السافر، وهمت كل طائفة منهم أن تنال من المؤمنين، بل طمعت في أن تقضي عليهم، وتستأصل شأفتهم.
فلم يمض على هذه المعركة شهران حتى تهيأت بنو أسد للإغارة على المدينة ، ثم قامت قبائل عضل وقارة في شهر صفر سنة 4هـ بمكيدة سببت قتل عشرة من الصحابة، وفي نفس الشهر قامت بنو عامر بمكيدة مثلها، سببت في قتل سبعين من الصحابة، وتعرف هذه الوقعة بوقعة بئر معونة، ولم تزل بنو نضير خلال هذه المدة تجاهر بالعداوة حتى قامت في ربيع الأول سنة 4ه ـ بمكيدة تهدف إلى قتل النبي صلَّى الله عليه وسلم، وتجرأت بنو غطفان ، حتى همت بالغزو على المدينة في جمادى الأولى سنة 4ه ـ.
فريح المسلمين التي كانت قد ذهبت في معركة أحد تركت المسلمين -إلى حين - يهددون بالأخطار، ولكن تلك هي حكمة محمد صلَّى الله عليه وسلم التي صرفت وجوه التيارات وأعادت للمسلمين هيبتهم المفقودة، وأكسبت لهم العلو والمجد من جديد، وأول ما أقدم عليه بهذا الصدد هي حركة المطاردة التي قام بها إلى حمراء الأسد ، فقد حفظ بها مقداراً كبيراً من سمعة جيشه، واستعاد بها من هيبتهم ومكانتهم ما ألقى اليهود والمنافقين في الدهش والذهول، ثم قام بمناورات أعادت للمسلمين هيبتهم، بل زادت فيها، وفي الصفحة الآتية شيء من تفاصيلها:
33- 2 - سرية أبي سلمة:
أول من قام ضد المسلمين بعد نكسة أحد هم بنو أسد بن خزيمة ، فقد نقلت استخبارات المدينة أن طلحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما، يدعون بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول الله صلَّى الله عليه وسلم.
فسارع رسول الله صلَّى الله عليه وسلم إلى بعث سرية قوامها مائة وخمسون مقاتلاً من المهاجرين والأنصار، وأمر عليهم أبا سلمة وعقد له لواء، وباغت أبو سلمة بني أسد بن خزيمة في ديارهم قبل أن يقوموا بغارتهم، فتشتتوا في الأمر، وأصاب المسلمون إبلاً وشاء لهم، فاستاقوها، وعادوا إلى المدينة سالمين غانمين لم يلقوا حرباً.
كان مبعث هذه السرية حين استهل هلال المحرم سنة 4هـ، وعاد أبو سلمة وقد نغر عليه جرح كان قد أصابه في أحد، فلم يلبث حتى مات.
33- 3 - بعث عبدالله بن أنيس:
وفي اليوم الخامس من نفس الشهر -المحرم سنة 4هـ - نقلت الاستخبارات أن خالد بن سفيان الهذلي يحشد الجموع لحرب المسلمين، فأرسل إليه النبي صلَّى الله عليه وسلم عبدالله بن أنيس ليقضي عليه.
وظل عبدالله بن أنيس غائباً عن المدينة ثماني عشرة ليلة، ثم قدم يوم السبت لسبع بقين من المحرم، وقد قتل خالداً وجاء برأسه، فوضعه بين يدي النبي صلَّى الله عليه وسلم، فأعطاه عصا وقال: هذه آية بيني وبينك يوم القيامة، فلما حضرته الوفاة أوصى أن تجعل معه في أكفانه.
33- 4 - بعث الرجيع:
وفي شهر صفر من نفس السنة -أي الرابعة من الهجرة - قدم على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم قوم من عضل وقارة، وذكروا أن فيهم إسلاما، وسألوا أن يبعث معهم من يعلمهم الدين، ويقرئهم القرآن، فبعث معهم ستة نفر -في قول ابن إسحاق وفي رواية البخاري أنهم كانوا عشرة وأمر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي وعند البخاري أنه عاصم بن ثابت جد عاصم بن عمر بن الخطاب-فذهبوا معهم، فلما كانوا بالرجيع -وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز بين رابغ وجدة - استصرخوا عليهم حياً من هذيل يقال له بنو لحيان ، فتبعوهم بقرب من مائة رام، واقتصوا آثارهم حتى لحقوهم، فأحاطوا بهم -وكانوا قد لجأوا إلى فدفد - وقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً. فأما عاصم فأبى النزول، وقاتلهم في أصحابه، فقتل منهم سبعة بالنبل، وبقي خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر فأعطوهم العهد والميثاق مرة أخرى، فنزلوا إليهم، ولكنهم غدروا بهم وربطوهم بأوتار قسيهم، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، وأبى أن يصحبهم، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم، فلم يفعل، فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد فباعوهما بمكة، وكانا قتلا من رؤوسهم يوم بدر ، فأما خبيب فمكث عندهم مسجوناً، ثم أجمعوا على قتله، فخرجوا به من الحرم إلى التنعيم، فلما أجمعوا على صلبه قال: دعوني حتى أركع ركعتين، فتركوه فصلاهما، فلما سلم قال: والله لولا أن تقولوا: إن مابي جزع لزدت، ثم قال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً، ثم قال:
لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا
بائلهم واستجمعوا كل مجمع
وقد قربوا أبناءهم ونساءهم
قربت من جذع طويل ممنع
إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي
ما جمع الأحزاب لي عند مضجعي
فذا العرش صبرني على مايراد بي
قد بضعوا لحمي وقد بؤس مطمعي
وقد خيروني الكفر والموت دونه
قد ذرفت عيناي من غير مدمع
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
لى أي شق كان في الله مضجعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
بارك على أوصال شلو ممزع
فقال له أبو سفيان: أيسرك أن محمداً عندنا نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ فقال: لا والله ما يسرني أني في أهلي وأن محمداً في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وتؤذيه.
ثم صلبوه ووكلوا به من يحرس جثته، فجاء عمرو بن أمية الضمري، فاحتمله بخدعة ليلاً، فذهب به فدفنه، وكان الذي تولى قتل خبيب هو عقبة بن الحارث وكان خبيب قد قتل أباه حارثاً يوم بدر .
وفي الصحيح أن خبيباً أول من سن الركعتين عند القتل، وأنه رئي وهو أسير يأكل قطفاً من العنب، وما بمكة تمرة.
وأما زيد بن الدثنة فأتبعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه.
وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه -وكان عاصم قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر - فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر -الزنابير- فحمته من رسلهم؛ فلم يقدروا منه على شيء. وكان عاصم أعطى الله عهداً أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركاً، وكان عمر لما بلغه خبره يقول: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته .
33- 5 - مأساة بئر معونة:
وفي نفس الشهر الذي وقعت فيه مأساة الرجيع وقعت مأساة أخرى أشد وأفظع من الأولى، وهي التي تعرف بوقعة بئر معونة.
وملخصها أن أبا براء عامر بن مالك (المدعو بملاعب الأسنة ) قدم على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم المدينة ، فدعاه إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد، فقال: يا رسول الله لو بعثت أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى دينك؛ لرجوت أن يجيبوهم، فقال: إني أخاف عليهم أهل نجد ، فقال أبو براء: أنا جار لهم، فبعث معه أربعين رجلا ً -في قول ابن إسحاق، وفي الصحيح أنهم كانوا سبعين، والذي في الصحيح هو الصحيح - وأمر عليهم المنذر بن عمرو أحد بني ساعدة الملقب بالمعنق ليموت، وكانوا من خيار المسلمين وفضلائهم وساداتهم وقرائهم، فساروا يحتطبون بالنهار، يشترون به الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن، ويصلون بالليل، حتى نزلوا بئر معونة -وهي أرض بين بني عامر وحرة بني سليم - فنزلوا هناك، ثم بعثوا حرام بن ملحان أخا أم سليم بكتاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلم ينظر فيه، وأمر رجلاً فطعنه بالحربة من خلفه، فلما أنفذها فيه ورأى الدم قال حرام: الله أكبر، فزت ورب الكعبة.
ثم استنفر عدو الله لفوره بني عامر إلى قتال الباقين، فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء، فاستنفر بني سليم ، فأجابته عصية ورعل وذكوان، فجاءوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم، إلا كعب بن زيد بن النجار، فإنه ارتث من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق.
وكان عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن عقبة بن عامر في سرح المسلمين، فرأيا الطير تحوم على موضع الوقعة، فنزل المنذر، فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه، وأسر عمرو بن أمية الضمري، فلما أخبر أنه من مضر جز عامر ناصيته، وأعتقه عن رقبة كانت على أمه.
ورجع عمرو بن أمية الضمري إلى النبي صلَّى الله عليه وسلم حاملاً معه أنباء المصاب الفادح، مصرع سبعين من أفاضل المسلمين، تذكر نكبتهم الكبيرة بنكبة أحد؛ إلا أن هؤلاء ذهبوا في قتال واضح؛ وأولئك ذهبوا في غدرة شائنة.
ولما كان عمرو بن أمية في الطريق بالقرقرة من صدر قناة، نزل في ظل شجرة وجاء رجلان من بني كلاب فنزلا معه، فلما ناما فتك بهما عمرو، وهو يرى أنه قد أصاب ثأر أصحابه، وإذا معهما عهد من رسول الله صلَّى الله عليه وسلم لم يشعر به، فلما قدم أخبر رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بما فعل، فقال: لقد قتلت قتيلين لأدينهما وانشغل بجمع دياتهم من المسلمين وحلفائهم اليهود، وهذا الذي صار سبباً لغزوة بني النضير كما سيذكر.
وقد تألم النبي صلَّى الله عليه وسلم لأجل هذه المأساة، ولأجل مأساة الرجيع اللتين وقعتا خلال أيام معدودة تألماً شديداً، وتغلب عليه الحزن والقلق، حتى دعا على هؤلاء القوم والقبائل التي قامت بالغدر والفتك في أصحابه، ففي الصحيح عن أنس قال: دعا النبي صلَّى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة ثلاثين صباحاً، يدعو في صلاة الفجر على رعل وذكوان ولحيان وعصية، ويقول: عصية عصت الله ورسوله، فأنزل الله تعالى على نبيه قرآناً قرأناه حتى نسخ بعد "بلغوا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه " فترك رسول الله صلَّى الله عليه وسلم قنوته.
33- 6 - غزوة بني النضير:
قد أسلفنا أن اليهود كانوا يتحرقون على الإسلام والمسلمين، إلا أنهم لم يكونوا أصحاب حرب وضرب، بل كانوا أصحاب دس ومؤامرة، فكانوا يجاهرون بالحقد والعداوة، ويختارون أنواعاً من الحيل، لإيقاع الأذى بالمسلمين دون أن يقوموا للقتال، مع ما كان بينهم وبين المسلمين من عهود ومواثيق، وأنهم بعد وقعة بني قينقاع، وقتل كعب بن الأشرف خافوا على أنفسهم، فاستكانوا والتزموا الهدوء والسكوت.
ولكنهم بعد وقعة أحد تجرأوا، فكاشفوا بالعداوة والغدر، وأخذوا يتصلون بالمنافقين والمشركين من أهل مكة سراً، ويعملون لصالحهم ضد المسلمين.
وصبر النبي صلَّى الله عليه وسلم، حتى ازدادوا جرأة وجسارة بعد وقعة الرجيع وبئر معونة، حتى قاموا بمؤامرة تهدف القضاء على النبي صلَّى الله عليه وسلم. وبيان ذلك أنه صلَّى الله عليه وسلم خرج إليهم في نفر من أصحابه، وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري -وكان ذلك يجب عليهم حسب بنود المعاهدة - فقالوا: نفعل يا أبا القاسم، اجلس ههنا حتى نقضي حاجتك، فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم ينتظر وفاءهم بما وعدوا، وجلس معه أبو بكر وعمر وعلي وطائفة من أصحابه.
وخلا اليهود بعضهم إلى بعض، وسوّل لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم، فتآمروا على قتله صلَّى الله عليه وسلم، وقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحى، ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟... فقال أشقاهم عمرو بن جحاش: أنا. فقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا، فوالله ليخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه، لكنهم عزموا على تنفيذ خطتهم.
ونزل جبريل من عند رب العالمين على رسوله صلَّى الله عليه وسلم يعلمه بما هموا به، فنهض مسرعاً، وتوجه إلى المدينة ، ولحقه أصحابه فقالوا: نهضت ولم نشعر بك، فأخبرهم بما همت به يهود.
وما لبث رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أن بعث محمد بن مسلمة إلى بني النضير يقول لهم: اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشراً، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه. ولم يجد يهود مناصاً من الخروج، فأقاموا أياماً يتجهزون للرحيل، بيد أن رئيس المنافقين -عبدالله بن أبي - بعث إليهم أن اثبتوا وتمنعوا، ولا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونكم {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ } وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان .
وهناك عادت لليهود ثقتهم، واستقر رأيهم على المناوأة، وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله رأس المنافقين، فبعث إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يقول: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك.
ولا شك أن الموقف كان حرجاً بالنسبة إلى المسلمين، فإن اشتباكهم بخصومهم في هذه الفترة المحرجة من تاريخهم لم يكن مأمون العواقب، وقد رأيت كَلَبَ العرب عليهم، وفتكهم الشنيع ببعوثهم، ثم إن يهود بني النضير كانوا على درجة من القوة تجعل استسلامهم بعيد الاحتمال، وتجعل فرض القتال معهم محفوفاً بالمكاره، إلا أن الحال التي جدت بعد مأساة بئر معونة وما قبلها زادت حساسية المسلمين بجرائم الاغتيال والغدر التي أخذوا يتعرضون لها جماعات وأفراداً، وضاعفت نقمتهم على مقترفيها، ومن ثم قرروا أن يقاتلوا بني النضير -بعد همهم باغتيال الرسول صلَّى الله عليه وسلم - مهما تكن النتائج..
فلما بلغ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم جواب حيي بن أخطب كبر وكبر أصحابه، ثم نهض لمناجزة القوم، فاستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وسار إليهم، وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء، فلما انتهى إليهم فرض عليهم الحصار.
والتجأ بنو النضير إلى حصونهم، فأقاموا عليها يرمون بالنبل وبالحجارة، وكانت نخيلهم وبساتينهم عوناً لهم في ذلك، فأمر بقطعها وتحريقها، وفي ذلك يقول حسان:
وهان على سراة بني لؤي
ريق بالبويرة مستطير
البويرة: اسم لنخل بني النضير، وفي ذلك أنزل الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ }
واعتزلتهم قريظة، وخانهم عبدالله بن أبي وحلفاؤهم من غطفان ، فلم يحاول أحد أن يسوق لهم خيراً، أو يدفع عنهم شراً، ولهذا شبه سبحانه وتعالى قصتهم، وجعل مثلهم:
{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ }.
ولم يطل الحصار -فقد دام ست ليال فقط، وقيل: خمس عشرة ليلة - حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، فاندحروا وتهيأوا للاستسلام ولإلقاء السلاح، فأرسلوا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: نحن نخرج عن المدينة ، فأنزلهم على أن يخرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم، وأن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح.
فنزلوا على ذلك، وخربوا بيوتهم بأيديهم، ليحملوا الأبواب والشبابيك، بل حتى حمل بعضهم الأوتاد وجذوع السقف، ثم حملوا النساء والصبيان، وتحملوا على ستمائة بعير، فترحل أكثرهم وأكابرهم كحيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق إلى خيبر ، وذهبت طائفة منهم إلى الشام، وأسلم منهم رجلان فقط يامين بن عمرو وأبو سعد بن وهب، فأحرزا أموالهما.
وقبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلم سلاح بني النضير، واستولى على أرضهم وديارهم وأموالهم، فوجد من السلاح خمسين درعاً، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفاً.
وكانت أموال بني النضير وأرضهم وديارهم خالصة لرسول الله صلَّى الله عليه وسلم، يضعها حيث يشاء، ولم يخمسها لأن الله أفاءها عليه، ولم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب، فقسمها بين المهاجرين الأولين خاصة، إلا أنه أعطى أبا دجانة وسهل بن حنيف الأنصاريين لفقرهما، وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله.
كانت غزوة بني النضير في ربيع الأول سنة 4 من الهجرة، أغسطس 635م.
وأنزل الله في هذه الغزوة سورة الحشر بأكملها، فوصف طرد اليهود، وفضح مسلك المنافقين، وبين أحكام الفيء، وأثنى على المهاجرين والأنصار، وبين جواز القطع والحرق في أرض العدو للمصالح الحربية، وأن ذلك ليس من الفساد في الأرض، وأوصى المؤمنين بالتزام التقوى والاستعداد للآخرة، ثم ختمها بالثناء على نفسه وبيان أسمائه وصفاته.
وكان ابن عباس يقول عن سورة الحشر: قل: سورة النضير.
33- 7 - غزوة نجد:
وبهذا النصر الذي أحرزه المسلمون -في غزوة بني النضير - دون تضحيات توطد سلطانهم في المدينة ، وتخاذل المنافقون عن الجهر بكيدهم، وأمكن الرسول صلَّى الله عليه وسلم أن يتفرغ لقمع الأعراب الذين آذوا المسلمين بعد أحد، وتواثبوا على بعوث الدعاة يقتلون رجالها في نذالة وكفران، وبلغت بهم الجرأة إلى أن أرادوا القيام بجر غزوة على المدينة .
فقبل أن يقوم النبي صلَّى الله عليه وسلم بتأديب أولئك الغادرين نقلت إليه استخبارات المدينة بتحشد جموع البدو والأعراب من بني محارب وبني ثعلبة من غطفان ، فسارع النبي صلَّى الله عليه وسلم إلى الخروج، يجوس فيافي نجد ، ويلقي بذور الخوف في أفئدة أولئك البدو القساة، حتى لا يعاودوا مناكرهم التي ارتكبوها مع المسلمين.
وأضحى الأعراب الذين مردوا على النهب والسطو لا يسمعون بمقدم المسلمين إلا حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال. وهكذا أرهب المسلمون هذه القبائل المغيرة وخلطوا بمشاعرهم الرعب، ثم رجعوا إلى المدينة آمنين.
وقد ذكر أهل المغازي والسير بهذا الصدد غزوة معينة غزاها المسلمون في أرض نجد في شهر ربيع الثاني أو جمادى الأولى سنة 4هـ، ويسمون هذه الغزوة بغزوة ذات الرقاع.
أما وقوع الغزوة خلال هذه المدة فلا شك فيه. وهذا الذي كانت تقتضيه ظروف المدينة ، فإن موسم غزوة بدر التي كان قد تواعد بها أبو سفيان حين انصرافه من أحد كان قد اقترب، وإخلاء المدينة ، مع ترك البدو والأعراب على تمردهم وغطرستهم، والخروج لمثل هذا اللقاء الرهيب -لم يكن من مصالح سياسة الحروب قطعاً، بل كان لا بد من خضد شوكتهم، وكف شرهم قبل الخروج لمثل هذه الحرب الكبيرة التي كانوا يتوقعون وقوعها في رحاب بدر .
وأما أن تلك الغزوة التي قادها الرسول صلَّى الله عليه وسلم في ربيع أو جمادى الأولى سنة 4هـ هي غزوة الرقاع فلا يصح، فإن غزوة ذات الرقاع شهدها أبو هريرة وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهما، وكان إسلام أبي هريرة قبل غزوة خيبر بأيام، وكذلك أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وافى النبي صلَّى الله عليه وسلم بخيبر. وإذن فغزوة ذات الرقاع بعد خيبر ، ويدل تأخرها عن السنة الرابعة أن النبي صلَّى الله عليه وسلم صلى فيها صلاة الخوف، وكانت أول شرعية صلاة الخوف في غزوة عسفان، ولا خلاف في أن غزوة عسفان كانت بعد الخندق، وكانت غزوة الخندق في أواخر السنة الخامسة.
33- 8 - غزوة بدر الثانية:
ولما خضد المسلمون شوكة الأعراب، وكفكفوا شرهم، أخذوا يتجهزون لملاقاة عدوهم الأكبر، فقد استدار العام. وحضر الموعد المضروب مع قريش -في غزوة أحد - وحق لمحمد صلَّى الله عليه وسلم وصحبه أن يخرجوا؛ ليواجهوا أبا سفيان وقومه، وأن يديروا رحى الحرب كرة أخرى، حتى يستقر الأمر لأهدى الفريقين وأجدرهما بالبقاء.
ففي شعبان سنة 4هـ يناير سنة 626م، خرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلم لموعده في ألف وخمسمائة، وكانت الخيل عشرة أفراس، وحمل لواءه علي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة عبدالله بن رواحة وانتهى إلى بدر ، فأقام بها ينتظر المشركين.
وأما أبو سفيان، فخرج في ألفين من مشركي مكة ، ومعهم خمسون فرساً، حتى انتهى إلى مر الظهران على بعد مرحلة من مكة فنزل بمجنة -ماء في تلك الناحية -.
خرج أبو سفيان، من مكة متثاقلاً، يفكر في عقبى القتال مع المسلمين، وقد أخذه الرعب واستولت على مشاعره الهيبة، فلما نزل بمر الظهران خار عزمه، فاحتال للرجوع، وقال لأصحابه: يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا.
ويبدو أن الخوف والهيبة كانت مستولية على مشاعر الجيش أيضاً، فقد رجع الناس ولم يبدوا أي مصادمة لهذا الرأي وأي إصرار وإلحاح على مواصلة السير للقاء المسلمين.
وأما المسلمون فأقاموا ببدر ثمانية أيام ينتظرون العدو، وباعوا ما معهم من التجارة فربحوا بدرهم درهمين، ثم رجعوا إلى المدينة وقد انتقل زمام المفاجأة إلى أيديهم، وتوطدت هيبتهم في النفوس وسادوا على الموقف.
وتعرف هذه الغزوة ببدر الموعد، وبدر الثانية، وبدر الآخرة وبدر الصغرى.
33- 9 - غزوة دومة الجندل:
عاد رسول الله صلَّى الله عليه وسلم من بدر ، وقد ساد المنطقة الأمن والسلام، واطمأنت دولته، فتفرغ للتوجه إلى أقصى حدود العرب حتى تصير السيطرة للمسلمين على الموقف، ويعترف بذلك الموالون والمعادون.
مكث بعد بدر الصغرى في المدينة ستة أشهر، ثم جاءت إليه الأخبار بأن القبائل حول دومة الجندل -قريباً من الشام - تقطع الطريق هناك، وتنهب ما يمر بها، وأنها قد حشدت جمعاً كبيراً تريد أن تهاجم المدينة ، فاستعمل رسول الله صلَّى الله عليه وسلم على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، وخرج في ألف من المسلمين لخمس ليال بقين من ربيع الأول سنة 5هـ، وأخذ رجلاً من بني عذرة دليلاً للطريق يقال له مذكور.
خرج يسير الليل ويكمن النهار؛ حتى يفاجئ أعداءهم وهم غارون، فلما دنا منهم إذا هم مغربون، فهجم على ماشيتهم ورعائهم، فأصاب من أصاب، وهرب من هرب.
وأما أهل دومة الجندل ففروا في كل وجه، فلما نزل المسلمون بساحتهم لم يجدوا أحداً، وأقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أياماً، وبث السرايا وفرق الجيوش، فلم يصب منهم أحداً، ثم رجع إلى المدينة ، ووادع في تلك الغزوة عيينة بن حصن. ودومة بالضم، موضع معروف بمشارف الشام، بينها وبين دمشق خمس ليال، وبعدها من المدينة خمس عشرة ليلة.
بهذه الإقدامات السريعة الحاسمة، وبهذه الخطط الحكيمة الحازمة نجح النبي صلَّى الله عليه وسلم في بسط الأمن، وتنفيذ السلام في المنطقة والسيطرة، وتحويل مجرى الأيام لصالح المسلمين، وتخفيف المتاعب الداخلية والخارجية التي كانت قد توالت عليهم، وأحاطتهم من كل جانب، فقد سكت المنافقون واستكانوا، وتم إجلاء قبيلة من اليهود، وبقيت الأخرى تظاهر بإيفاء حق الجوار وبإيفاء العهود والمواثيق، واستكانت البدو والأعراب، وحادت قريش عن مهاجمة المسلمين، ووجد المسلمون فرصة لإفشاء الإسلام وتبليغ رسالات رب العالمين.
غزوة الأحزاب
غزوة بنى قريظة
36- 1 - مقتل سلام بن أبي الحقيق:
كان سلام بن أبي الحقيق -وكنيته أبو رافع- من أكابر مجرمي اليهود، الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين وأعانهم بالمؤن والأموال الكثيرة، وكان يؤذي رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، فلما فرغ المسلمون من أمر قريظة استأذنت الخزرج رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) في قتله، وكان قتل كعب بن الأشرف على أيدي رجال من الأوس ، فرغبت الخزرج في إحراز فضيلة مثل فضيلتهم؛ فلذلك أسرعوا إلى هذا الاستئذان.
وأذن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) في قتله، ونهى عن قتل النساء والصبيان، فخرجت مفرزة قوامها خمسة رجال، كلهم من بني سلمة من الخزرج ، قائدهم عبدالله بن عتيك.
خرجت هذه المفرزة، واتجهت نحو خيبر ، إذ كان هناك حصن أبي رافع، فلما دنوا منه -وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم- قال عبدالله بن عتيك لأصحابه: اجلسوا مكانكم، فإني منطلق ومتلطف للبواب، لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته، وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عبدالله إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الباب.
قال عبدالله بن عتيك: فدخلت فكمنت: فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق على ود قال: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها، ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علالي له، فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت باباً أغلقت علي من داخل. قلت: إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله، فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت، قلت: أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش، فما أغنيت شيئاً، وصاح، فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه، فقلت: وما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمك الويل، إن رجلاً في البيت ضربني قبلُ بالسيف، قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله. ثم وضعت ظبة السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب باباً باباً، حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي، وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة، فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب. فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته؟ فلما صاح الديك صاح الناعي على السور فقال: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع. فانتهيت إلى النبي (صلَّى الله عليه وسلم)، فحدثته فقال: ابسط رجلك، فبسطت رجلي فمسحها فكأنها لم أشتكها.
هذه رواية البخاري، وعند ابن إسحاق أن جميع النفر دخلوا على أبي رافع، واشتركوا في قتله، وأن الذي تحامل عليه بالسيف حتى قتله هو عبدالله بن أنيس، وفيه أنهم لما قتلوه ليلاً، وانكسرت ساق عبدالله بن عتيك حملوه، وأتوا منهراً من عيونهم، فدخلوا فيه، وأوقد اليهود النيران، واشتدوا في كل وجه، حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم، وإنهم حين رجعوا احتملوا عبدالله بن عتيك حتى قدموا على رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم).
كان مبعث هذه السرية في ذي القعدة أو ذي الحجة سنة 5هـ.
ولما فرغ رسول الله من الأحزاب وقريظة، واقتص من مجرمي الحروب أخذ يوجه حملات تأديبية إلى القبائل والأعراب، الذين لم يكونوا يستكينون للأمن والسلام إلا بالقوة الظاهرة.
36- 2 - سرية محمد بن مسلمة:
كانت أول سرية بعد الفراغ من الأحزاب وقريظة، وكان عدد قوات هذه السرية ثلاثين راكباً.
تحركت هذه السرية إلى القرطاء، بناحية ضرية بالبكرات من أرض نجد ، وبين ضرية والمدينة سبع ليال، تحركت لعشر ليال خلون من المحرم سنة 6هـ إلى بطن بني بكر بن كلاب، فلما أغارت عليهم هرب سائرهم، فاستاق المسلمون نعماً وشاء، وقدموا المدينة لليلة بقيت من المحرم ومعهم ثمامة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة ، كان قد خرج متنكراً لاغتيال النبي (صلَّى الله عليه وسلم) بأمر مسيلمة الكذاب، فأخذه المسلمون، فلما جاؤوا به ربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي (صلَّى الله عليه وسلم) فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال سل تعط منه ما شئت، فتركه، ثم مر به مرة أخرى، فقال له مثل ذلك، فرد عليه كما رد عليه أولاً، ثم مر مرة ثالثة فقال: بعد ما دار بينهما الكلام السابق-أطلقوا ثمامة، فأطلقوه، فذهب إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم جاءه فأسلم، وقال: والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ، ووالله ماكان على وجه الأرض دين أبغض عليّ من دينك، فقد أصبح دينك أحب الأديان إليّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فبشره رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، وأمره أن يعتمر، فلما قدم على قريش قالوا: صبأت يا ثمامة، قال: لا والله، ولكني أسلمت مع محمد (صلَّى الله عليه وسلم)، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، وكانت يمامة ريف مكة ، فانصرف إلى بلاده، ومنع الحمل إلى مكة ، حتى جهدت قريش ، وكتبوا إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يخلي إليهم حمل الطعام، ففعل رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم).
36- 3 - غزوة بني لحيان:
بنو لحيان هم الذين كانوا قد غدروا بعشرة من أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) بالرجيع، وتسببوا في إعدامهم، ولكن لما كانت ديارهم متوغلة في الحجاز إلى حدود مكة ، والتارات الشديدة قائمة بين المسلمين وقريش والأعراب، لم يكن يرى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أن يتوغل في البلاد بمقربة من العدو الأكبر، فلما تخاذلت الأحزاب، واستوهنت عزائمهم، واستكانوا للظروف الراهنة إلى حد ما، رأى أن الوقت قد آن لأن يأخذ من بني لحيان ثأر أصحابه المقتولين بالرجيع، فخرج إليهم في ربيع الأول أو جمادى الأولى سنة 6هـ في مائتين من أصحابه، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأظهر أنه يريد الشام، ثم أسرع السير حتى انتهى إلى بطن غران -واد بين أمج وعسفان، حيث كان مصاب أصحابه، فترحم عليهم ودعا لهم- وسمعت به بنو لحيان ، فهربوا في رؤوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يومين بأرضهم، وبعث السرايا، فلم يقدروا عليهم، فسار إلى عسفان، فبعث عشرة فوارس إلى كراع الغميم لتسمع به قريش ، ثم رجع إلى المدينة ، وكانت غيبته عنها أربع عشرة ليلة.
36- 4 - متابعة البعوث والسرايا:
ثم تابع رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) في إرسال البعوث والسرايا. وهاك صورة مصغرة منها:
1- سرية عكاشة بن محصن إلى الغمر، في ربيع الأول أو الآخر سنة 6هـ. خرج عكاشة في أربعين رجلاً إلى الغمر، ماء لبني أسد ، ففر القوم، وأصاب المسلمون مائتي بعير ساقوها إلى المدينة .
2- سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة، في ربيع الأول أو الآخر سنة 6هـ. خرج ابن مسلمة في عشرة رجال إلى القصة في ديار بني ثعلبة، فكمن القوم لهم -وهم مائة- فلما ناموا قتلوهم، إلا ابن مسلمة فإنه أفلت منهم جريحاً.
3- سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة، في ربيع الآخر سنة 6هـ. وقد بعثه النبي (صلَّى الله عليه وسلم) على إثر مقتل أصحاب محمد بن مسلمة، فخرج ومعه أربعون رجلاً إلى مصارعهم، فساروا ليلتهم مشاة، ووافوا بني ثعلبة في الصبح، فأغاروا عليهم، فأعجزوهم هرباً في الجبال، وأصابوا رجلاً واحداً فأسلم، وغنموا نعماً وشاء.
4- سرية زيد بن حارثة إلى الجموم ، في ربيع الآخر سنة 6هـ. والجموم ماء لبني سليم في مر الظهران ، خرج إليهم زيد فأصاب امرأة من مزينة يقال لها حليمة، فدلتهم على محلة من بني سليم أصابوا فيها نعما وشاء وأسرى، فلما قفل بما أصاب، وهب رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) للمزينية نفسها وزوجها.
5- سرية زيد أيضاً إلى العيص، في جمادى الأولى سنة 6هـ، في سبعين ومائة راكب، وفيهاأخذت أموال عير لقريش كان قائدها أبو العاص ختن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، وأفلت أبو العاص، فأتى زينب فاستجار بها، وسألها أن تطلب من رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) رد أموال العير عليه، ففعلت، وأشار رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) على الناس برد الأموال من غير أن يكرههم، فردوا الكثير والقليل والكبير والصغير، حتى رجع أبو العاص إلى مكة ، وأدى الودائع إلى أهلها، ثم أسلم وهاجر، فرد عليه رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) زينب بالنكاح الأول بعد ثلاث سنين ونيف. كما ثبت في الحديث الصحيح ردها بالنكاح الأول؛ لأن آية تحريم المسلمات على الكفار لم تكن نزلت إذ ذاك، و أما ما ورد من الحديث من أنه رد عليه بنكاح جديد أو رد عليه بعد ست سنين فلا يصح معنى، كما أنه ليس بصحيح سنداً. والعجب ممن يتمسكون بهذا الحديث الضعيف، فإنهم يقولون: إن أبا العاص أسلم في أواخر سنة ثمان قبيل الفتح، ثم يناقضون أنفسهم، فيقولون: إن زينب ماتت في أوائل سنة ثمان. وقد بسطنا الدلائل في تعليقنا على بلوغ المرام، وجنح موسى بن عقبة أن هذا الحادث وقع في سنة 7هـ من قبل أبي بصير وأصحابه، ولكن ذلك لا يطابق الحديث الصحيح ولا الضعيف.
6- سرية زيد أيضاً إلى الطرف أو الطرق، في جمادى الآخرة سنة 6هـ. خرج زيد في خمسة عشر رجلاً إلى بني ثعلبة، فهربت الأعراب، وخافوا أن يكون رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) سار إليهم، فأصاب من نعمهم عشرين بعيراً، وغاب أربع ليال.
7- سرية زيد أيضاً إلى وادي القرى ، في رجب سنة 6هـ. خرج زيد في اثني عشر رجلاً إلى وادي القرى؛ لاستكشاف حركات العدو إن كانت هناك، فهجم عليهم سكان وادي القرى ، فقتلوا تسعة، وأفلت ثلاثة فيهم زيد بن حارثة.
8- سرية الخبط، تذكر هذه السرية في رجب سنة 8هـ، ولكن السياق يدل على أنها كانت قبل الحديبية ، قال جابر: بعثنا النبي (صلَّى الله عليه وسلم) في ثلاثمائة راكب أميرنا أبو عبيدة بن الجراح، نرصد عيراً لقريش، فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط، فسمي جيش الخبط، فنحر رجل ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم إن أبا عبيدة نهاه، فألقى إلينا البحر دابة يقال لها: العنبر، فأكلنا منه نصف شهر، وأدهنا منه، حتى ثابت منه أجسامنا، وصلحت، وأخذ أبو عبيدة ضلعاً من أضلاعه، فنظر إلى أطول رجل في