وانتهت المباراة.. نعم بالهزيمة.. أيوه يا سيدى بالهزيمة.. فلتنطلق حناجر البعدا بالهتاف والفرحة والشماتة.. وبما أنها ستكون فرحة غير رياضية وغير شريفة.. إذن فليبدأ فاصل جديد من الخيابة والزعيق والردح وقلة الأدب.
■ ولتبدأ أصوات التهدئة لدينا والمناداة بالعقل والحكمة.. وصلوا ع النبى وإحنا الكبار برضه.. ولنلتزم الهدوء ونتصرف بشكل حضارى.. ولنمد أذرع المحبة والتفاهم ونمد معها حبال الصبر التى لا تنتهى.. ولنبن جبال كظم الغيظ حتى تعلو على قامة إيفرست والهيمالايا.
■ قبل المباراة كان قلبى يدق من الرعب.. الرعب من الهزيمة مثل النصر.. إذا هزمنا تحملت قلوبنا آلاما لا قبل لنا بها بعد أربعة أيام من الفرحة العارمة الزائفة التى تمسكنا بها بل واتلزقنا فيها.. وإذا انتصرنا فالله يعلم كم عدد المصريين الضحايا الرهائن المحتجزين هناك على ذمة نتيجة الماتش.. وفى الحالتين نحن فرجة العالم.. إيه المهانة دى؟
■ لماذا نظل نذكر بعضنا والآخرين بأننا الكبار برضه؟.. ونظل نتنازل عن أشياء كثيرة ونتحمل صغائر أكثر حتى تصل رسالة أننا الكبار الى الآخرين.. كل الآخرين؟.. ده إيه السخافة دى؟
■ هل ما زالت مسألة الكبار دى عايزة إثبات.. هل من الواجب أن نظل نذكر الآخرين بها.. أم أن المسألة أننا فى الواقع نذكر أنفسنا؟.. هو احنا مش كبار فعلا واللا إيه؟.. ده لو خدناها بالتعداد إحنا الكبار.. بالتاريخ إحنا الكبار.. بالجغرافيا.. بالموارد الطبيعية.. بالعلم.. بالإعلام.. بالسياسة.. بالثقافة.. بجوائز نوبل.. بالأدب.. بالفن.. بالذكاء الفطرى والمدرب.. بالصبر على البلاوى ومقاومة القرف المحيط.. بالجيش.. بالداخلية.. يا أخى ده حتى فى البلطجة إحنا الكبار برضه.. فما هذه الاستكانة؟
■ لماذا نشعر بالانكسار والمهانة والضعف؟.. لماذا فقدنا أظافرنا هكذا؟.. لماذا نردد (بإخلاص) شعارات البلد الشقيق بينما لا نسمعها (بإخلاص) من غيرنا؟.. ولا أعنى شقيقا واحدا.. بل كل الأشقاء.. هما بس اللى اخواتنا واحنا مش اخواتهم؟.. إيه؟
■ لماذا نأخذ موقف الدفاع عن النفس على طول الخط ونردد نبرة التهدئة؟.. لماذا يهان مواطنونا فى البلاد «الشقيقة» بينما لا يهان مواطن «شقيق» فى بلادنا؟.. لماذا نكون أول المستقبلين لطوابير ووفود العائدين من الموظفين والعمال المقطوع عيشهم فى أى أزمة اقتصادية أو حرب داخلية او خارجية.. ناهيك عن النعوش.. لماذا يرتكب بعض «الأشقاء» جرائم قتل واغتصاب وخلافه ويهربوا ولا نعثر عليهم بينما يتم القبض على مواطنينا بذنب ودون ذنب هناك؟
■ لماذ نتخلى عن هويتنا لنتسول هويات أخرى.. بينما كل شعوب الأرض تتمنى أن تكون لديها حضارة مؤسسة للتاريخ والعلم مثل حضارتنا.. شعب يحمل كل صفات الحضارة الفرعونية.. بكل عنادها وصبرها وجلدها وابتكارها ورقيها.. لماذا تتسلل إليه ثقافات مريبة معطلة ترده للخلف وتعوق مسيرته وتقدمه وتشغله بقضايا عفنة ورثة وبالية؟
■ لماذا يتجرأ علينا أى شعب بكل هذه الوقاحة إلا إذا كان نظامه يسانده فى الخفاء؟.. من أين أتت هذه الجرأة؟.. ألم يدرس هؤلاء فى مدارسنا وجامعاتنا وأزهرنا ؟
■ حتى على المستوى الفنى.. تقام مهرجانات سينمائية فى بلاد ليس فيها ريحة السينما وفى نفس توقيتات مهرجاناتنا فقط لمجرد التشفى وسحب البساط والمنظرة بنجومنا وأفلامنا وخلق حالة من الرواج الفنى والسياحى على قفانا؟.. وبالرغم من الفشخرة المظهرية والمادية إلا أن ذلك يغلفه فقر شديد فى المواهب والإبداع والقدرة على خلق حالة ثقافية أصيلة وليست مستعارة..
وحتى إذا أراد أحد أن يسخر منا فى أعمال فنية يستخدم لغتنا وسخريتنا وكوميديتنا للنيل من رموزنا.. إيه البواخة دى؟.. وللأسف يعود ناسنا من هناك وفى حلقهم غصة لأنهم يستشعرون مهانة غير معلنة.. رغم الترحيب الظاهرى.. ولكن هناك شيئا يحدث فى الخفاء.. بالبلدى يشعرون أن الأخوة «الأشقاء» بيستوطوا حيطنا!
■ وبعد ذلك تحدث المهزلة التى تبعت المباراة فى الخرطوم من ترصد لناسنا ومطاردتهم فى الشوارع وضربهم بالطوب والسيوف والبلا الازرق.. فيه حاجة كده؟..
التفكير القبلى الطبيعى فى هذه الحالة هو إرسال قوات من الجيش المصرى لتعليم الخارجين الأدب.. لماذا استبعدوا هذا التصرف؟.. هل هم متأكدون من أننا لن نقدم على ذلك؟.. ليه؟.. لماذا نساهم فى صنع فضيحة عالمية على هذا المستوى؟.. أو حتى نكون طرفا فيها؟.. لماذا لم نضرب هؤلاء الذين ضربونا هناك بالحذاء ودغدغنا عضمهم؟.
■ لماذا نسجن أنفسنا داخل أدبنا ؟.. مع إننا اللى بدعنا قلة الأدب.. ونستطيع أن نمارس كل أنواع الصلف والقوة والسخافة والرخامة والتجرمة.. ولينا خربوش وعضة يعلم الجميع فى داخلهم مدى قوتها.. ويبدو أننا سمحنا للجميع بالاستهانة بها.. ولكن.. عن نفسى أقول حذار..
كفاية كده بقى.. أنا مصرية فرعونية.. من ستسول له نفسه توجيه أى إهانة لى سأمسح به بلاط السكك.. ومن سيشتمنى أو يشتم أى مصرى غيرى سأهين أهله.. ومن سيضرب أى مصرى سأخزق عينه.. وسأظل فخورة بانتمائى لدولة كبيرة وعظيمة ولكنى لن أتمسك بهذا الأدب الذى مكن الأقزام منى.
■ أنا لا أدعو إلى مقاطعة أحد.. ولا الإضرار بدراعنا الملوى خلفنا باسم العمالة الموجودة هناك.. فهم يحتاجونها قبلنا ولو كان لديهم البديل لاستغنوا عنها.. ولا العلاقات والأواصر والذى منه.. بس حد يفهمنى لوجه الله ما معنى عبارة القومية العربية التى نشأنا عليها؟.. اللى هى إيه بالظبط؟.. اللى هى بنعمل بيها إيه بالتفصيل؟..
هل هى التى تقودنا إلى الخلاف المستمر والأبدى فى كل مؤتمراتنا العربية؟.. هل هى المظلة التى تنشئ دولة عربية جهازا إعلاميا فقط لشتيمتنا من تحته؟.. والتى لا نرد عليها بدعوى أننا الدولة الكبيرة الأم؟.. مع أن لساننا أطول من رجلنا..
ولدينا خطباء مفوهون فى فنون الردح والإهانة والسخرية والتريقة ومسح البلاط.. ولكن مرة أخرى مسجونون داخل أدبنا.. هل هى التى يمارس من خلالها كل «الأشقاء» هذا الكم المهول من الاختلاف والتناحر ولى عنق الحقائق والحروب الخفية والمعلنة والتى تعددت ميليشياتها وأزياؤها وأهواؤها؟.. هل هى التى تتم الاجتماعات السرية فى غرفها المغلقة لعقد صفقات مع من يطلقون عليهم الأعداء فى العلن؟.
■ أعتقد أننا نحتاج إلى تغيير اللغة التى نقرؤها ونرددها.. وإلى فتح الملفات من جديد لمراجعة هذه المفاهيم.. وحصرها فى العلاقات الاقتصادية فقط كخلق سوق عربية مشتركة مثلا لأن هذا هو الواقع الذى يفرض نفسه فعلا.
■ أما الباقى فتمثيل فى تمثيل.. وشعارات كاذبة.. وحنجورى قديم وبالى.. وفضوها بقى