زمن طويل مر منذ أن عرفت أن للأزمنة رائحة، وللأماكن رائحة، حتى الأرواح لها رائحة!. تقترب من روح فتشعر بكل عذوبة الكون. وتقترب منك أخرى فتصاب بالاختناق!. للخريف رائحة الحزن وبدايات قصص الحب، وللشتاء رائحة الخلق و الماء الرطب، والربيع رائحة الخصوبة والهرمونات القلقة، والصيف رائحة البحر والعلاقات العابرة. الليل له رائحة، وكذلك النهار!. من جملة أسرارى أن الليل يتسلل أحيانا لأنفى رغم سطوع الشمس، أعرف رائحته فيربكنى حضوره فى وضح النهار!. ولكل حقبة من حياتى رائحتها المنفردة: طفولتى برائحة الياسمين تهاجمنى من الفلل المجاورة، وأنا أسير مع أمى فى سكون الليل. وحينما كنت ألعب مع أصدقائى فى الشارع ويزيح بائع الفراولة الصعيدى العجوز غطاء السلّة الخوص تفوح رائحة الفراولة فى الشارع كله. مراهقتى برائحة الربيع الغامض والمشاعر المتشابكة، رائحة الحب حين ينادى القطة فى الليالى المقمرة. يفسرها العلماء بفيرمونات الحب: الجزيئات الدقيقة التى لا رائحة لها نفرزها عند حدوث الانجذاب، فيلتقطها الجزء العلوى من تجويف الأنف والمتصل رأسا بمركز الإحساس فى المخ فيحدث الاستنفار ويشتعل الحب. شبابى برائحة القلق والأمانى غير الممكنة والخوف من الغد، كهولتى برائحة الذكريات، تثير أشجانى تهيّج لواعجى. وحينما أتهيأ للاستنشاق فعندى طقوس معينة: أغمض عيني، أغلق أذنى، وللقلب الخافق فى صدرى أصدر أمرى بالتوقف. أتحول إلى حال سكون تام، بعدها أبدأ الاستنشاق. أبدؤه بلطف، بنعومة، وكأننى لا أنوى الاقتحام. هبة هواء تتسلل إلى صدرى، تجتذب معها عطورا واهنة، وآهات مكبوتة، وأحلاما صغيرة لمن تصادف وجودهم حولى. بعدها أبدأ الاقتحام: من أعماق أعماقى أجتذب الهواء، كزوبعة صغيرة عاتية، ومع الهواء أستلب الأحلام، بمغناطيس الحب أستولى على القلوب، وأطياف غريبة من عوالم أخرى تتسلل إلى رئتى، لا أعرف أسماءها، لا أرى ملامحها، لكنى أشعر بها وأميز رائحتها، لبعضها رائحة الود، ومذاق المجرات البعيدة. وأمعن فى الاستنشاق، أمزق قميصي، يتحول جلد صدرى العارى إلى مركز إحساس هائل، يتحول الهواء إلى دوامة، تتطاير الكراسى، تقتلع البيوت، ترتفع الأجساد بقوة العشق، كلها تتطاير إلى صدري!، وفى الدوامة مظلات نسائية، وطائرات ورقية، وعلب كبريت ولعب أطفال، وكراسى مراجيح، وبالونات ملونة، ودكك المدارس القديمة، وخطابات غرامية بحبر أحمر، وصنبور قديم متآكل تتسرب منه نقاط المياه، يشرب منه الطفل القديم بعطش لا يرتوى. وللأماكن روائح: للريف المصرى رائحة الحقول المحروثة، العشب المبتل بندى الصباح، وهواء تنفسته بقرة واسعة العينين تمضغ العشب فى تأن، وللمدن رائحة: للإسكندرية رائحة العشب واليود والود، ورذاذ أمواج اصطدمت بصخور الأنفوشى فبللت ذيل فستان غادة سكندرية، سددت من عينين كحيلتين نظرة دلال إلى (جدع) اسكندرانى (فطب) ساكتا. وللقاهرة الفاطمية رائحة بخور، وقلل رطبة تشبعت مسامها بماء الورد، ورائحة شمس تضرب صخور المقطم، وعبير مسك دهن به عشاق آل البيت ضريح الحسين.ولمكة رائحة البأس، والقوى الروحية المهيمنة، رائحة الأسفلت الممهد حديثا، وفوران الشمس تضرب جبال مكة، ثم ينفك الحصار عن ثغرة رقة ينفذ منها الحمام الأبيض، وقبلات الرخام البارد لقدميك الحافيتين، قبل أن تدخل مدار الكعبة فيجذبك عشق لا فكاك منه، سابحا إلى الأبد مع الطائفين والإلكترونات والأقمار والنجوم.وفى المدينة المنورة نعناع مريح، وياسمين وفل، وريحان مسامح، وورد ذو حمرة صافية. أبيض.. أبيض.. ثياب بيضاء، بيوت بيضاء، قلوب بيضاء.. حتى الروائح بيضاء!. وفى الطرقات بعض من عطر النبوّة. رائحة عنبر الحوت الذى ابتلع النبى يونس عليه السلام، ولم يزل يتنقل عبر أرواح الأنبياء حتى وصل إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام. وفى الساحة الرخامية، أمام القبة الخضراء، هناك حيث يبزغ القمر كل ليلة، حفيف أرواح تتزاور بين أُحد والبقيع حاملة معها روائح الجنة.
سمر سيناتور
عدد الرسائل : 8530 تاريخ التسجيل : 06/08/2008
موضوع: رد: روائح المحبّة الثلاثاء 27 أكتوبر - 6:00
شكراااااااااا نور كلماااات راااائعه
gana الاداري المثالي
عدد الرسائل : 4139 تاريخ الميلاد : 01/01/1985 العمر : 39 الموقع : مصر تاريخ التسجيل : 30/05/2008