تمر على الإنسان فى حياته أحداث كثيرة، بعضها حلو وبعضها مر، وهكذا هى حال الدنيا حتى يرحل ذاك الإنسان بدوره عن الحياة، غير أن إحساس الحلاوة والمرارة يتلاشى عند عتبة الموت، عندما ينعى إليك إنسان عزيز كان يشاركك آمالك وآلامك ويقاسمك أفراحك وأحزانك، بل أحياناً يفرح لك أكثر مما تفرح أنت لنفسك، ويحزن لأجلك أكثر مما تحزن أنت، ولا يوجد فى الدنيا كلها رغم كثرة الأصدقاء والأحباب والمعارف من يمكنه فعل ذلك أحسن من الأم..
الأم الحنون التى ليس لها أعز من نفسها كابنها، فلذة كبدها، الأم التى تراك «صغيرها» حتى وإن بلغت من العمر الكهولة أو الشيخوخة، تراك وليدها وأنت أب لنصف دستة من البنين والبنات، تخاف عليك نوائب الدهر وتخشى عليك من البرد، وتراها تراقب ملامح وجهك لترصد أى مسحة حزن أو لمحة هم، أو تتنصت لكلامك مدققة فى نبرة صوتك لعلها تكتشف «نغمة» غير عادية لتسألك عن أحوالك وقلق الدنيا كله فى عينيها، ومهما حاولت طمأنتها أو حاولت مخادعتها بهدوئك وابتسامتك فإنك لن تستطيع لأن قلب الأم حساس، وعينيها تلتقط كل إشارة مهما كانت ضئيلة خفية،
ولا شك أن موت الأم يزلزل حياة أى إنسان ويجعله يشعر بإحساس لا يمكن تقديره أو وصفه بالكلام، إحساس تتلاشى عنده الكلمات وتضمحل العبارات ولا تبقى سوى العبرات، ماتت أمى، فسكت الصوت الذى كان يترنم بتسابيح الملكوت، وهاجر الطائر الذى كان يغرد بصوت السماء، ماتت أمى، فحطت الرحمة أدواتها وارتحلت وتركت الحياة كليلة عزاء طويلة،
فلم تعد النجوم على الأرض إلا مصابيح مأتم أقيم بليل، ولم يعد للحياة معنى من بعدها، ماتت أمى، فأصبحت أحيا ببعض نفس وبعض روح وبعض عقل، ماتت أمى، فلم يعد بعدها قلب يضخ الحب بلا حساب، ولا صدر ينفث عطر الأمن والأمان بلا مقابل، رحمك الله يا أمى لقد عشت بسيطة ومت بسيطة ودفنت بسيطة، فما أسعدك وما أحزننى!
ويا أيها الأبناء، يا من تتناسون آباءكم وأمهاتكم، عودوا إليهم وقبلوا الأرض تحت أقدامهم، فسيأتى وقت تندمون على كل لحظة لم تنالوا فيها حباً وحناناً باركته السماء، وستذرفون بدل الدمع دماً على غفلتكم وتقصيركم فى حقهم