المصرى حتى النخاع، القاهرى حد الذوبان. نجيب محفوظ الإنسان، الدمث الرقيق، المهذب المتواضع، الجاد الدؤوب الذى عكف على مشروعه الضخم عشر سنوات دون أن ينتبه إليه أحد، يرتاد مقاهى القاهرة القديمة، يعيد رسم خارطة الأدب، يتضوع عطر القباب العريقة والأزقة العتيقة، القاهرة الفاطمية، قلب مصر التاريخى النابض.
الإنسان الذى لامس حقيقة الكون، وأدهشه غموض الحياة، وتأرجح بين كل المذاهب بقلب حائر وعقل مستنير. محاولا التوفيق بين الماضى والحاضر، والدين والعلم، باحثا عن الحقيقة الكبرى: علاقة الإنسان بربه، ومكان الإنسان فى هذا الكون العجيب. يدق على الجدار الأصم فى مكان عله يسمع رنينا يشى بموضع الكنز. مستميتا فى البحث والتدقيق، متمرغا فى التراب شحاذا يلتمس اليقين.
نجيب محفوظ، واحد من العباقرة المعدودين فى تاريخ الرواية. لغته الكثيفة المدهشة التى تراوحت بين الجزالة والسلاسة، إيقاع الحدث المشوق السريع، ثلاثية الدين والجنس والسياسة، المحاور التى عزفت عليها رواياته الكبرى، فكان لحنا بديعا مشجيا، وفى المقدمة منها- فى العمق العميق- علاقة الإنسان بربه، ومحاولة التوفيق بين التفكير العلمى واليقين الدينى.
فى ثلاثيته الشهيرة كان كمال عبد الجواد حائرا يشاركنا فى حيرته، الشاب الذى تعرض لزلزلة عقائدية عنيفة بعد دراسته الفلسفة مع انتشار الأفكار الإلحادية فى حقبة الثلاثينيات حينما كان وعى نجيب محفوظ آخذا فى التشكل، عذاب أليم حاول أن يتجاوزه فى رواية «القاهرة الجديدة» بأبطالها الثلاثة: مأمون المتدين الثابت على مبادئه، وعلى طه الملحد الشريف!!،
ثم محجوب عبد الدايم الديوث الخبيث، وكان المعنى المضمر فى الرواية أنه لا يهم موقفك من الإيمان طالما كنت متمسكا بالأخلاق.
وانفجرت رواية (أولاد حارتنا) حينما تخلى عن الرمز لأول وآخر مرة فى حياته. كانت صرخة روح تحترق وهى تلتمس اليقين، بعدها تعلم كيف يستخدم الرمز فى رواية «الشحاذ» التى تقطر عذابا، يتساءل: هل القلب مجرد مضخة أم وسيلة اتصال بالملأ الأعلى!.
فى رواية «الطريق» استخدم رمز الأب فى التعبير عن القوة الخالقة المهيمنة، صابر الرحيمى الذى يبحث عن أبيه الغائب، ويستميت فى البحث عنه لأنه سبيل (الحرية والكرامة والسلام)، إنه واثق من وجوده، لكنه لا يعرف كيفية الوصول إليه. كانت رحلة طويلة منهكة يا شيخنا الجليل ولكنها انتهت – بحمد ربنا بسلام