انطلق المدفع مفرقعاً يخالطه ارتفاع صوت الأذان.. معلناً انقضاء يوم شاق من أيام رمضان.. وكانت المائدة قد تراصت وأصابت الأيادى بعض مؤنها وغاصت وإذا بالباب طارق.. وبنظرة من أبى تحتوينى.. وكأنه بفتح الباب يأمرنى ويقصدنى ويعنينى.. فتمتمت والله إن الطعام لرائق.. ومن يفعل مثل هذه الفعلة فى هذا الوقت ليس سوى سفيه أو مجنون مارق.. وبعد أن نهضت كان على الباب رجل وأظنه كبير العمر شيخاً..
فنظر إلىّ الغريب.. وقال بصوت عريض ورحيب..أعطنى يا ولدى كوباً من الماء.. فالطقس مع حره ملجوم الهواء.. فنهضت أمى يتبعها أبى وصرخت أن أفسح الباب يا ولدى.. وردد أبى مرحباً بالضيف.. هكذا يفعل بنا رمضان يا شيخنا فى الصيف.. ودعاه للإفطار مؤكداً.. وتمنع الرجل فى القبول متردداً.. فتقدم بعد إلحاح الوالد.. وابتلع قدحاً من المرق باللحم الراكد.. وابتسم الشيخ بوجهه السمح.. وهو يحتسى كوباً من اللبن مع البلح.. وقال قرير العينين: يا أهل الخير والإحسان.. هل أديتم حق رمضان..
فنظرت أمى وقالت: العذر يا شيخ فالمائدة لم تتسع.. وكم نوعاً وكم طبقاً قد رجع.. وإنى لأراه قد ازداد خيره.. وكثرت لحومه.. وكبر أوزه وبطه.. وغاص صغارنا فى أنهار مرقه.. فرد الشيخ بصوت مزمجر.. وكما لو كان ثائراً: لك الله أيها الشعب المجاهد الصابر.. لا ندرى إن كان لكم بعض ما لنا.. وهل عندكم بعض مما عندنا؟.. يا سيدتى يرحمك الله.. وزادكم من منه وفضله وعطاياه.. ليس هذا ما كنت أقصد..
فأعبد عباد الشهر من كان يقتصد ويعرض ويزهد.. ويقوم الليل يصلى ويتعبد.. ليذوق طعم الجوع.. ويشعر بكل فقير أو كادح موجوع.. صيام نهاره فريضة.. وقيام ليله تطوع يستجدى تأكيده.. فالخير كل الخير فى هذه الأيام فى هذا الشهر.. الصوم نصف الصبر.. والصبر شطر الإيمان.. فأتموا صومكم بالحرمان.. وأكثروا الدعاء.. واقرأوا القرآن.