لا يخطر ببال أحد من سكان القاهرة، أن بعض الطماطم والبصل والبطاطس وغيرها من الخضروات التى تباع فى الأسواق، ربما تكون ليست «مهرمنة» فقط، أو أن خطورتها تتوقف على رشها بالمبيدات والكيماويات. كما أن ربات البيوت اللاتى ينتقين الكوسة «على الفرازة» أمام الميزان قبل أن يجادلن الباعة على الثمن، لا يدرين أن هذه الكوسة كاملة النضج، قد تكون زرعت فى مياه صرف صحى خام تجرى فيها المخلفات الآدمية.
لكن هذا ما يحدث بالفعل حاليا على أطراف القاهرة.
هنا فى منطقة عرب أبو ساعد، جنوب حلوان، تقع كل يوم ومنذ سنوات عديدة مخالفات تتصل بأرواح الناس وغذائهم، أكثر من ٨ آلاف فدان مزروعة بالكامل بمختلف أصناف المحاصيل الحقلية والخضروات، تروى بمياه الصرف الصحى الآسن التى تستقبلها محطة جنوب حلوان، وتلقى فى ترعة «كوم أمبو» بآلاف الأطنان من مجارى العاصمة كما هى بمخلفاتها الآدمية دون أى معالجة كيميائية، بالمخالفة لكل قوانين رى الزراعات.
الزائر إلى منطقة عرب أبو ساعد لا يمكنه مقاومة الرائحة الكريهة للمياه السوداء التى تجرى ببطء فى الترعة التى شقتها فى التسعينيات شركة كوم أمبو، وسميت باسمها، وأصبحت الآن تخترق ٨ آلاف فدان، أغلبها مسجل فى جمعية استصلاح الأراضى فى الصف، قام الأهالى باستصلاحها، واعتمدوا على هذه المياه فى ريها دون أى إشراف حكومى يذكر.
هنا يزرع الناس- كما يحكى الحاج عربى محمود من قرية عرب الحصار- الخضروات دون الحاجة لأى سماد كيماوى أو عضوى، لكن الجدل لم يتوقف لحظة عن صحة ما يقومون به.
ويقول عامر، أحد الفلاحين: «أمتلك أربعة أفدنة فى عرب الحصار، أزرعها بالفلفل والباذنجان والطماطم والبطاطس، وكل المزروعات، و«طلع عينى» فى طلب مد خط من النيل الذى لا يبعد ٢ كيلو متر من أرضى، وإذا قررت التوقف عن الرى بمياه الصرف الصحى يتوقف رزق عيالى».
أهالى الصف يعتبرون أنفسهم أول الضحايا لما يحدث، لأنهم يأكلون هذا المحصول، ولا يملكون حلا بديلا، إلا أن عددا منهم اتخذ خطوة أكثر إيجابية فى محاولة إيقاف هذه الزراعة التى يرونها خطرا على كل السكان فى الصف والمناطق التى تذهب إليها هذه الخضروات.
الشيخ سلامة عبدالقوى، إمام وخطيب من قرية «أسكر»، يقول: تلقيت العديد من أسئلة الأهالى التى تقول «هل يجوز شرعا الزراعة على هذه المياه»، وكان ردى أن نرجع فى ذلك لأهل الإختصاص، وقررنا مع مجموعة من السكان التوجه إلى مركز البحوث الزراعية بطلب تحليل عينات من المياه والنباتات، مأخوذة من أراضى مركز الصف التى تروى بمياه الصرف الصحى، وكانت النتيجة فى منتهى القسوة.
أحمد حماد، أحد سكان الصف الذين توجهوا إلى مركز البحوث الزراعية وغيره من الجهات البحثية، أطلعنا على نص التقارير المعتمدة، فماذا كانت النتائج؟
انتهى تقرير لمعهد بحوث الأراضى والمياه والبيئة فى مركز البحوث الزراعية إلى أن عينة المياه الواردة من ترعة كوم أمبو جنوب حلوان، غير صالحة للاستخدام الآدمى، وقال التقرير الصادر بتاريخ ٥ من الشهر الجارى، واعتمده رئيس مجلس إدارة وحدة الأراضى والمياه الدكتور حمدى الحسينى خليفة، أنه يتضح من التحليل الميكروبيولوجى للعينة المأخوذة من الترعة المذكورة، والتى يتم ضخ مياه الصرف الصحى الناتجة من محطة جنوب حلوان بمنطقة عرب أبو ساعد بمركز الصف محافظة حلوان التالى: ارتفاع عدد بكتيريا القولون البرازية بصورة مخيفة، حيث إن العدد الاحتمالى للمجموعة القولونية لكل ١٠٠ مللى لتر لا تزيد على ٥ آلاف خلية، فى حين أظهر التحليل أن عدد الخلايا ٦٥ ألف خلية، بما يوازى ١٣ ضعف الحد الأقصى المسموح به، وتصل كمية بكتيريا القولون الكلية إلى ١١٥ ألف خلية لكل ١٠٠ مللى لتر.
ولاحظ التقرير عدم اكتشاف بكتيريا السالمونيلا والشيجلا، لكنه قال إن ذلك لا يعنى بالضرورة خلو هذه المياه القذرة منها، ويمكن أن يعزى ذلك إلى عدم أخذ العينة بصورة سليمة، أو لأخذ العينة من منطقة تبعد عن المحطة بحوالى ١٨ كيلو مترا.
وذكر التقرير: اتضح من التحليل وجود كل الطفيليات الممرضة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، اليوجلينا، انتيميبيا هستولتيكا، بلانتيديم كولاى، ديدان حية.
وانتهى التقرير إلى أنه لا تجرى أى معالجة لهذه المياه، واتضح أنه لا يصح استخدام هذه المياه فى الزراعات التى تؤكل نهائيا، كما يحظر ملامسة هذه المياه.
عم صابر شاهين، أحد الأهالى، لا يدرك معنى هذه التقارير الخطيرة، ولا يلقى بالا للتحذيرات بخطورة ملامسة هذه المياه فضلا عن أنه يقتحم بساقيه المجارى المنسابة فى أرضه المزروعة بالسمسم والباذنجان، يفسح لها الطريق هو وأولاده ليتمكنوا من سد احتياجاتهم والعيش بكفاف.
يقول صابر إنه يزرع الأرض من خمس سنوات، ولا يرى فى ذلك أى خطورة على حياته، «طول عمرنا عايشين، وصحتنا زى الفل، ونبيع الخضار فى الصف وحلوان»، ويضيف «الأرض تعطى أفضل زرع من غير أى كيماوى، أو سماد»، تسأله: لماذ؟، فيجيب «ما هى فيها من خيرات الله»، هكذا يقول صابر وهو يشير إلى المياه الفاسدة خلفه، لكن ابنه محمد الذى يعمل معه فى ذات الأرض وتلقى من التعليم حظا متوسطا، يقول إنه يخاف على صحته لكن ليس أمامه بديل.
التقارير التى رصدت حالة الزراعة فى هذه المنطقة جنوب حلوان، أثارت بقوة التزايد الرهيب فى العناصر المعدنية الثقيلة، والتى وصلت نسبا حرجة. كما أن الزراعات تخالف الكود المصرى لاستخدام مياه الصرف الصحى المعالجة فى الرى.
انتهى تقرير مركز استصلاح وتنمية الأراضى الصحراوية بكلية الزراعة جامعة القاهرة حول تركيز الفلزات الثقيلة فى عينات نباتية مأخوذة من نفس المنطقة، إلى أن نتائج تحليل عينات النباتات (لفت، ذرة، بصل، قمح، برسيم) قد تخطت الحدود الحرجة للعناصر الثقيلة وتركيزاتها داخل هذه النباتات، طبقا لمنظمة الصحة العالمية لعام ١٩٩٦.
وقال التقرير الذى اعتمده الدكتور صلاح الدين بكر الأمير، مدير المركز، إنه من الواضح ارتفاع تركيز الفلزات الثقيلة داخل هذه النباتات عن الحدود المسموح بها، ومنها عناصر الكادميوم، والزنك فى جميع أنواع النباتات، وأن تركيز بعض العناصر فى بعض عينات النباتات كانت كالتالى: عنصر الكروم يتركز فى عينات اللفت والبصل والبرسيم فقط، عناصر النحاس والنيكل لم تتعد الحدود المسموح بها فى جميع أنواع النباتات.
وخلص التقرير إلى أن هذه العينات تعتبر غير صالحة للاستخدام الآدمى، نتيجة ارتفاع تركيزات بعض العناصر السامة فيها وهى عناصر (الكروم، والرصاص، والكادميوم، والزنك) وذلك طبقا لما ورد بتقرير منظمة الصحة العالمية لسنة ١٩٩٦.
هكذا قالت التقارير، ومعها ارتفعت أصوات الأهالى، الذين يرفضون التوقف عن هذه الزراعات، وفى الوقت نفسه يطالبون بحل المشكلة جذريا وتوفير مياه رى من النيل المجاور لأراضيهم.
محمد عامر، أحد سكان عرب أبو ساعد، وقف أمام ماسورة الرفع التى لا تبعد عن سور محطة جنوب حلوان للصرف الصحى أكثر من كيلو متر واحد، يشير بيده ناحية حوض الصرف الممتلئ عن آخره بمياه المجارى، ويقول: يصيبنا الرعب من زيادة عدد المصابين بالفشل الكلوى والسرطان فى قرى مركز الصف، والسبب هذه الماسورة التى ترمى لنا الوباء.
يملك «محمد» ١٨ فدانا، ويعترف أن ما يقوم به من زراعة يصل إلى درجة الجريمة فى حق المصريين، لكنه يقول إن الحكومة وحدها تتحمل الثمن، لأنها من وجهة نظره لا تقوم بمعالجة هذه المياه، التى يجب أن تمر بثلاث مراحل، ترسيب الحمأة، وقتل البكتيريا، والمعالجة الكيميائية، والنتيجة أن محطة أبو ساعد تستقبل أكثر من طاقتها، وتلقى بالمجارى ليزرع منها الناس.
تسأله لماذا لا تحفرون آبارا لرى أراضيكم، فيجيب: البئر الواحدة تكلف أكثر من ١٠٠ ألف جنيه، والأرخص هو شق ترعة من النيل، واستصلاح الأراضى البكر وبيعها للأهالى، بدلا من مشروع توشكى الذى لم يذهب للمصريين، على حد تعبيره.
ويقر عامر بأن مديرية الزراعة فى حلوان لا تقوم بتحرير مخالفات، على الرغم من أن المزروعات تسافر إلى سوق العبور، والمعادى، وكل مكان فى القاهرة، وكل ما تحرره من مخالفات، هو طريقة الرى، لأن هذه الأراضى الصحراوية يجب أن تروى بالرش أو التنقيط، وليس بالغمر كما هو متبع حاليا.
أما خالد أبو المجد، أحد سكان مركز الصف، فأكد أن مشكلة رى الزراعات بمياه الصرف ليست جديدة، والحكومة تباطأت فى تنفيذ مشروع استكمال محطة جنوب حلوان للصرف الصحى، منذ إنشاء الترعة عام ١٩٨٧، وحتى عام ١٩٩٠، ولم يتم تسليمها من الهيئة العامة للتعمير والتنمية الزراعية، وهى الجهة الحكومية المالكة للترعة والأرض، والنتيجة إلقاء ٥٥ ألف طن يوميا من مياه الصرف الخام دون أدنى معالجة فى الترعة ومنها إلى المزارع، ثم أفواه المصريين.
وقال أبو المجد إن المشروع فى صورته المثلى، كان يهدف إلى خلط مياه الصرف الصحى من محطة جنوب حلوان بعد معالجتها، مع مياه النيل عن طريق محطتى رفع، واحدة عند الصف، والأخرى عند كفر الواصلين. على أن تستخدم المياه المخلوطة فى رى مزارع الأشجار الخشبية، عند أول ٢٤ كيلو مترا من مصب الترعة، وبعدها يمكن زراعة بعض المحاصيل باشتراطات معينة، لكن شيئا من هذا لم يحدث.
واجهنا اللواء أشرف الشرقاوى، رئيس الإدارة المركزية لشؤون مكتب محافظ حلوان، بكلام الأهالى، فأكد صحة الوقائع، دون التزامه بالتقارير المنشورة، وقال لـ«المصرى اليوم» المشكلة مستمرة منذ سنوات طويلة، لكنها فى سبيلها للحل، وجارٍ استكمال مشروع محطة جنوب حلوان للصرف الصحى.
وقال الشرقاوى إن المزروعات مخالفة للقوانين دون شك، لكنها ليست بكميات كبيرة، وسبق للدكتور حازم القويضى، محافظ حلوان زيارة المحطة بصحبة المهندس أحمد المغربى وزير الإسكان، وقررا العمل فورا على الانتهاء من مشروع الصرف الصحى المعالج، وتسليم المحطة التى توقف العمل بها منذ زمن بعيد، ونفى الشرقاوى علمه بتحرير محاضر مخالفات لمنع المزارعين من تسويق هذه المنتجات الملوثة فى الأسواق.
وبين تحرك وزارة الإسكان ومحافظة حلوان، واستمرار محطة الصرف الصحى جنوب حلوان فى إلقاء المخلفات الآدمية ليزرع عليها فلاحو الصف، يظل السؤال: من المسؤول عن هذه الكارثة البيئية ومتى تنتهى؟!.. الأيام المقبلة وحدها كفيلة بالإجابة.