جاءت سيمونا كوزاك إلى إيطاليا من البرازيل مع زوجها الثري الأميركي اللبناني الأصل، واشتريا فيلا تاريخية جميلة تشرف على فلورنسا، بنيت قبل خمسمائة عام في عهد عائلة مديتشي الحاكمة في فلورنسا.
وهنا تراءت لها في الحلم صاحبة الفيلا الأصلية التي قتلت مسمومة مع زوجها ورجتها أن تبتكر عطرا جديدا للمرأة العصرية، مستعملةً الأزهار والرياحين النامية في حديقة الفيلا.
قصة مثيرة تصلح لفيلم تاريخي مشوق، لكنها حقيقية وواقعية لا تستند إلى الخيال أو الدعاية الترويجية لمنتج جديد نزل إلى الأسواق في إيطاليا منذ أسابيع باسم «بيرلي دي بيانكا»، Perle di Bianca أي: لآلىء بيانكا البيضاء، بالإيطالية.
فبيانكا كابيلو هي عشيقة، ثم زوجة، فرانشسكو دي مديتشي وقد توفيا معا بفرق 11 ساعة فقط، وبشكل غامض في أواخر القرن السادس عشر.
كان ذلك بعد أسبوعين من تناولهما طعاما مسموما بالمعادن الثقيلة، وكان المشتبه به هو الكاردينال فردينادو، شقيق فرانشسكو، الذي كان يخاف من تخطيه في وراثة الحكم، ورغم ان التحقيق «المتقطع» استمر 420 سنة.
إلا أنه انتهى قبل عامين حين أعلن فرانشسكو ماري، رئيس قسم السموم بجامعة فلورنسا، وألدو بوليتيني، أستاذ الطب الشرعي بجامعة بافيا نتائج التحقيق المبني على معطيات التحليل العلمي الحديث والحمض النووي.
وصاحبة الفكرة في إنتاج العطر الجديد هي البرازيلية الحسناء صاحبة دور النشر وكاتبة قصص الأطفال بالبرتغالية سيمونا كوزاك، التي تنحدر من أصول سورية بينما زوجها هو رجل الأعمال والعقارات مايكل نايفي، اللبناني الأصل، من «مرجعيون» القادم إلى فلورنسا منذ سنوات من سان فرنسسكو بولاية كاليفورنيا.
اشترى الزوجان فيلا ميديتشي المعروفة باسم «لا تانا» في ضاحية بوجو كيايانو، وقاما بتحديثها، وكانت بيانكا كابيلو وزوجها قد توفيا فيها عام 1587 بدعوى إصابتهما بحمى الملاريا بعد حياة صاخبة، ولم يكن عمر بيانكا يتجاوز 39 عاما حينها.
فقد ولدت في البندقية ( فينيسيا) عام 1548 من عائلة نبيلة غنية، وأحبت موظفا بسيطا من فلورنسا حين بلغت الخامسة عشرة، وهربت معه إلى فلورنسا وتزوجته هناك.
وتعرضت لملاحقة حكومة البندقية، التي طالبت بالقبض عليها لولا أن الحاكم آنذاك الدوق الأكبر كوزيمو دي مديتشي رفض تسليمها.
ورغم أنها لم تنسجم مع عائلة مديتشي التي حكمت البلد لمدة ثلاثمائة عام، إلا أن جمالها لفت لها انتباه ابن الدوق الأكبر فرانشسكو، الذي اتخذها عشيقة له وأغدق عليها الهدايا والمجوهرات.
وبعد فترة ُقتل زوجها في ظرف غامض، ثم تسلم فرانشسكو حكم فلورنسا بعد وفاة أبيه وأسكنها في الفيلا الحالية القريبة من قصره في وسط مدينة فلورنسا.
وحين توفيت زوجته اقترن ببيانكا في احتفال رسمي، لكن أخاه رجل الكنيسة الكاردينال فردينادو كان يكرهها ويصفها بالمغاِِمرة الطفيلية.
قالت سيمونا كوزاك نايفي في مقابلة خاصة مع «الشرق الأوسط» إنها رأت بيانكا ذات ليلة في حلمها، فظنت أنها انتقلت إلى عالم الأوهام لولا أنها تذكرت حين صحت أن بيانكا قالت لها: لم لا تصنعين عطرا من ازهار الحديقة ففيها الكثير من الياسمين.
وأضافت سيمونا «فكرت في ذلك الحلم العجيب مليا لكنني لست مختصة بصنع العطور مع إدراكي أن البرازيل تصنع عطرو خاصه في سان باولو وتصدرها إلى البلاد العربية مستخدمة الأزهار والأعشاب الاستوائية المنتشرة في البرازيل».
أردفت سيمونا قائلة: قررت أن أقوم بأبحاث مفصلة عن تاريخ بيانكا وعائلة مديتشي، خاصة وأنني أصبحت المالكة الجديدة لأحد منازلهم الفاخرة، فاكتشفت أن كاترينا دي مديتشي التي تزوجت ملك فرنسا جلبت العطور إلى فرنسا من ايطاليا.
وتحديدا من فلورنسا التي كانت مخبرا معروفا لشتى أنواع العطور والروائح التي لم تكن معروفة حتى لدى العائلة الملكية الفرنسية آنذاك.
وبعدها بدأت في جمع وتحليل الزهور والورود والأعشاب، التي تنمو في الحديقة الواسعة بمعونة اختصاصي ايطالي في علم النبات، ثم غصت في التاريخ العربي، لأنني أفتخر بأصلي العربي، فذهلت لما أفضت إليه أبحاثي؛ وهي أن العرب كانوا رواد المخترعين لمختلف أنواع العطور.
وتضيف قائلة إن الفراعنة قد يكونون أول من استعمل العطر، وأن أول عطار وجد في بلاد ما بين النهرين، كما أن أقدم عطارة اكتشفت في قبرص. وكتب المؤرخ الإغريقي هيرودوتس عام 450 قبل الميلاد أن العرب وحدهم يصنعون العطور من المر باستخراج صمغ راتنجي من ساق المر والقرفة الصينية والآس، وكانوا يبعثون بهدية منها لداريوس إمبراطور الفرس.
وكانت تجارة الرومان مع اليمن التي تأتي بالتوابل من الهند وترسل معها العطور والبخور والعود إلى روما عن طريق البتراء في الأردن.
ويقال إنه حين دعا يوليوس قيصر كليوباترا لزيارة روما جاءت مع حاشيتها وعطورها، وكان لديها عطر للصباح وعطر آخر للمساء. نجد وصفات العطور العربية في كتاب ألفه الكندي عام 850 ميلادية.
ثم كان لجابر بن حيان وابن سينا، الذي استخرج زيت الزهور في الانبيق دور مهم في تطور صناعة العطور العربية، حيث استعمل العرب من النباتات الياسمين والنرجس والورد وزهر البرتقال، ومن الفواكه المشمش والكرز والتفاح والسفرجل.
كما استخدموا العطور الحيوانية كالعنبر والمسك حين استخرجوا مادة نفاذة العبير من جراب تحت الجلد البطني لأيل المسك.
وتتابع سيمونا وهي تعبث بشعرها الأسود ضاحكة «اهتم العرب بالعطور كوسيلة للإغراء، وأعتقد أنه ما زال جزءا أساسيا من زينة المرأة العربية حتى اليوم».
الماركة الجديدة «بيرلي دي بيانكا» عرضت في معرض «بيتي» المعروف للأزياء في فلورنسا خلال أسبوع العطور قبل بضعة أشهر، ووصلت إلى ميلانو وموسكو حتى الآن.
وهو عبارة عن مجموعة تشمل العطر والكريم وزيت التدليك وملح الحمام والشموع المعطرة وغيرها من مستحضرات تجميل تحتوي على أصناف الزهور التي تنمو في فلورنسا وتصنع حسب الطرق العتيقة الطبيعية التي كانت سائدة في أواخر القرون الوسطى.