انفصل والداي بعد ولادتي بمدة بسيطة، فعشت مع أهل والدتي، جدتي وخالاتي· حرمت من النماذج الذكورية في الأسرة· لا أب ولا أخ ولا خال ولا عم ولا جد، وقد كان لهذا الحرمان أثر كبير في نفسي، ولازلت اتساءل: لماذا يا ترى عندما يحدث الطلاق بين الزوجين، لماذا يختفي الأب وينجو بنفسه من تحمل المسؤولية العاطفية تجاه أولاده من مطلقته؟
لماذا لا يسأل عنهم؟ لماذا لا يمنحهم الحنان والعطف والاحساس بالأمان ليشعروا بدوره في حياتهم فلا تنشأ بداخلهم عقدة الاحساس بالنقص والحرمان· أسئلة تحيرني ولم استطع ان اجد جواباً مقنعاً لها·
قصة حياتي
تزوجت أمي بعد ان تزوج أبي، فأصبح لكل منهما حياته الخاصة ومشاغله بعيداً عن الاحساس بوجودي· كان لأمي دور اكثر انسانية من أبي، فهي قد أودعتني عند أهلها مطمئنة إلى انهم لن يقصروا معي· وهي أيضاً كانت تكلف نفسها مشقة السؤال عني في بعض الأحيان· أما والدي فإنه نسيني تماماً وكأنه لم ينجبني·
حاولت جدتي تعويضي عن غياب والدي عن حياتي بفيض من حنانها واهتمامها، ولكني كنت دوماً حزينة لشعوري بالنقص وبأنني لست مثل باقي الاطفال، فلست فتاة يتيمة حتى اقتنع بالأمر الواقع، ولدي أب وأم موجودان في هذه الدنيا ولكنهما لا يكترثان لي، خصوصاً والدي الذي كثيراً ما أنسى ملامحه لولا صورته الموضوعة في غرفتي والتي تساعدني على تذكره بين الحين والآخر·
عندما بلغت السادسة عشرة من عمري خطبني شاب يكبرني بخمسة عشر عاماً· وافقت على الارتباط به لأنني كنت بحاجة لوجود رجل في حياتي، مهما كانت صيغة وجوده· شجعتني جدتي، فهي قلقة علي· لقد كبرت في السن ولا تدري ان كان في عمرها بقية تسمح للعناية بي، تريد ان تطمئن إلى وجودي بعصمة رجل يتحمل مسؤوليتي· انه حل مريح للغاية على الرغم من انني لازلت في هذه السن المبكرة، فهي تعلم جيداً بأن لا احد سواها يكترث لأمري·
عرس كئيب
لم تكتمل سعادتي في عرسي، لان والدي اعتذر ولم يحضره، واكتفى بالذهاب إلى المحكمة لإتمام عقد القران· حتى كلمة مبروك لم أسمعها منه· بقيت تلك الحسرة في قلبي جرحا مؤلما لا يمكن ان انساه، أما والدتي فقد حضرت العرس وقامت بما هو مطلوب منها دون أية مشاعر حقيقية صادقة وكأنني لست قطعة منها، مما زاد في احساسي بالألم والغربة في هذا العالم العجيب·
انتقلت إلى عش الزوجية وانا لا أملك أدنى فكرة عن الحياة الزوجية ومسؤولياتها وعن هذا الرجل الذي ارتبطت به· من أي نوع هو؟ وكيف ستكون معاملته لي؟ وكيف يتوجب علي التعامل معه؟· لم تكن أمي حريصة على اعطائي النصائح المخلصة وتركتني لأخوض تجربتي بنفسي، ولم يكلف والدي نفسه مشقة السؤال عن الرجل ليعرف بعض صفاته وسلوكياته التي يتميز بها· المهم انهم أراحوا انفسهم من مجرد التفكير بمسؤوليتهم نحوي وانتهى الأمر بالنسبة لهم· نسيني والدي ولكن الله الذي خلقني لم ينسني ولم يتخل عني، فقد أكرمني بنعمة عظيمة لم اكن أتوقعها، فقد اكتشفت بعد الزواج بمدة بسيطة ان زوجي هو خير خلق الله صفات وسلوكاً· عوضني عن حرماني من حنان الأم والأب وصار هو أمي وأبي وخالي وعمي وكل رجال ونساء عالمي الذي اعيش فيه· لقد اصبح هو كل الناس الذين احتاج إليهم·
بعد زواجنا بمدة بسيطة قرر زوجي إكمال تعليمه خارج الدولة، فرافقته في رحلة الغربة والتي دامت خمس سنوات، أنجبت خلالها أطفالي الأربعة، بنت وثلاث أولاد· تفرغت لتربيتهم والاهتمام بهم بمساعدة زوجي الذي ساندني في كل صغيرة وكبيرة حتى لا أشعر بالفراغ أو بالحاجة لأحد غيره· كنت سعيدة سعادة لا توصف بجنتي الصغيرة وكنت أدعو ربي ان يديم تلك النعمة علي·
جنة جديدة
انتهت مدة الدراسة وعدنا للوطن، فكان زوجي حريصاً على استمرار حياتنا الهادئة الجميلة، فأعد لنا منزلاً لائقاً فيه حديقة وحمام سباحة، فصار جنتنا الرائعة التي لم اكن أفكر بالخروج منها إلا لقضاء الحاجات الضرورية فقط·
انهمك زوجي في عمله وصار يتدرج بوظيفته بشكل سريع حتى اصبح بعد سنتين في مركز إداري كبير· أما انا فقد كنت منهمكة بالعناية بأولادي ورعايتهم، فنشأوا وهم في أفضل حال من التفوق والتميز في السلوك والأخلاق·
ثم حصلنا على أرض ومنحة لبنائها فكانت سعادتي لا توصف وانا أشرف بنفسي على كل صغيرة وكبيرة في البناء والتأثيث، فكانت النتيجة مذهلة· فيلا راقية أنيقة تحيطها حديقة واسعة كافية لبناء ملاحق يستقر فيها الأولاد بعد ان يكبروا ويتزوجوا، وحمام سباحة وجزء مخصص لتربية بعض الطيور والحيوانات·
شهدت فلتنا الرائعة أجمل أيام حياتنا الأسرية· فعلى الرغم من جميع الانشغالات، بقي زوجي حريصاً على الاهتمام بي وبكافة جوانب حياتي الحسية والعاطفية· الحب والتشجيع والاهتمام بي وبأولادي، ومكالماته المعبرة عن الشوق والاهتمام خلال فترة عمله صباحاً، وعودته وهو مشتاق لبيته ولنا، وحرصه على ان نقضي أوقاتنا مجتمعين نتحدث ونستمتع بأجواء العائلة الحلوة، كل هذا كان حياتي·
كنت ممتنة له جداً، فعلى الرغم من المركز المرموق الذي يشغله، وعلى الرغم من وسامته الملحوظة وكثرة المحاولات النسائية التي تلاحقه، وعلى الرغم من قدرته على فتح بيت آخر أو حتى ثلاثة··· على الرغم من كل ذلك رفض جميع المغريات من حوله ورد الطامعات برجل مثله وهو يردد بأن الله قد منحه حياة طيبة وزوجة مخلصة صالحة لا تستحق الإيذاء بأي شكل، فلماذا يجلب لنفسه ولها الأذى والتعب؟ لقد كان انساناً حكيماً ورائعاً يعجز اللسان عن وصفه، كنت احمد ربي لأنه رزقني مثل هذا الانسان المثالي وأزداد تفانياً واخلاصاً له ولأولادي، وأزداد حرصاً على شكر النعمة كي تدوم·
حادثة عارضة
عاد زوجي يوماً من عمله وكان واجماً على غير عادته، فسألته عن سبب ذلك التغير فأخبرني بأنه قد عرف انباءً غير طيبة عن والدي· سكتَ من شدة الصدمة· لقد نسيت هذا الاسم منذ زمن طويل، والدي انا؟ شيء غريب، ما الذي جعله يعود الى شاشة الأحداث في حياتي؟ تساءلت عن تلك الأنباء، فقال لي: والدك مصاب بمرض خبيث وهو يبحث عمن يساعده لتلقي العلاج في الخارج، وقد أرسل شخصاً ليتحدث معي حول إمكانية مساعدته في هذا الأمر·
على الرغم من كل ما حدث، وعلى الرغم من موقفي وأفكاري السيئة عن والدي إلا انني احسست بأن قلبي ينعصر إشفاقاً عليه، مسكين··· لا بد انه يشعر بالحاجة إلي· قررت زيارته وطلبت إذن زوجي فشجعني على تلك الزيارة ورافقني· لأول مرة أدخل بيت والدي· بيت بسيط متواضع، اخوتي واخواتي أناس غرباء لا أعرفهم، اخذوني إليه· رجل عجوز تعلو وجهه علامات الشحوب والأسى· سلمت عليه، قبلته فوق رأسه، لا أدري، في الحقيقة لم أجد بداخلي أية مشاعر نحوه، كأنني لا أعرفه، كأنه غريب علي، ولست من لحمه ودمه·
لمت نفسي لتلك المشاعر، حاولت ان أجد بداخلي غيرها ولكني لم أجد، فملأني الإحباط· كان لقاءً تقليدياً جداً· حاول أبي ان يبقي يدي بين يديه لأطول مدة· كان يرتجف من شدة انفعاله وهو يلفظ كلماته بصعوبة·
سامحيني يا ابنتي··· سامحتك من كل قلبي، لا شيء بداخلي نحوك لا لوم ولا عتاب ولا حتى حب· أنت بالنسبة لي رجل غريب لا أعرفه· لا أعرفك ولا استطيع ان اكرهك أو ان أحبك· انت رجل لا يعني لي شيئاً· لم استطع ان أقول تلك الأشياء التي دارت برأسي، فبقيت ساكتة· ثم انتهت الزيارة وعدت وانا أشعر بلوم وشيء من تأنيب الضمير·
صارحت زوجي بحقيقة مشاعري فلم يستنكرها وقال لي: العلاقات الانسانية تأتي نتيجة التواصل والاحساس بالمسؤولية، وهذا الشيء كان مقطوعاً بينكما منذ زمن بعيد·
على الرغم من كل ذلك إلا اننا، انا وزوجي قد قمنا بدور فعال في علاجه خارج الدولة ولم نتركه حتى استقرت حالته وعادت له عافيته·
هذا الموقف جعلني أزداد امتناناً لهذا الانسان الرائع الذي ارتبطت به، فساعدني على بر والدي الذي لم يكن يوماً باراً بي·
رحلة العمر
مرت السنين وكبر الأولاد وتخرجوا من الجامعات، فقمنا ببناء فلل صغيرة في نفس المساحات التي حددتها لهم حول فلتنا، ثم زوجناهم واحداً تلو الآخر·
احيل زوجي على التقاعد وصرنا نقضي الوقت كله معاً في سعادة وطمأنينة، نراقب أحفادنا الذين صاروا يملأون أركان البيت بهجة وحبورا·
اعتدنا ان نجلس في أوقات محددة نشرب القهوة معاً والاطفال يلعبون في فناء المنزل·
كان زوجي منشرح الصدر قرير العين راضيا عن نفسه بعد ان أدى رسالته تجاه وطنه في عمله المخلص الدؤوب، ورسالته تجاه اسرته وحملها إلى بر الأمان والراحة·
ثم جاء ذلك اليوم، غير المتوقع· شعرت بأن زوجي كان مكتئباً تبدو عليه علامات الانقباض· سألته عما به، فأخبرني بانه قد رأى حلماً غريباً أفزعه، فطمأنته إلى انه مجرد كابوس وطلبت منه ان يستعيذ بالله من الشيطان وان لا يجعل لذلك الحلم تأثيراً عليه·
بعد اسبوعين من ذلك الحلم، وفي المساء سلم علي زوجي بحرارة وقال مازحاً: غداً سأسافر وأتركك وحدك·
قلت له: لا تمزح هكذا، لانني لن اتركك تسافر وحدك وسأسافر معك اينما ذهبت·
قال: انها رحلة خاصة يجب ان لا يشاركني بها احد·
قلت له: ان هذا المزاح يؤذيني··· فأنت تعلم أنني لا استطيع ان أبقى وحدي بعيداً عنك حتى ساعة واحدة، خصوصاً وانني تعودت على وجودك معي طوال الوقت في السنين الأخيرة بعد التقاعد، فلا يمكنني العيش بدونك والبعد عنك أبداً، ثم من يشاركني شرب القهوة؟ هل تقبل ان أشربها وحدي·
ابتسم بحنان وضمني إليه بشوق· قلت له يا رجل انت في السبعين من عمرك، ألست كبيراً على مثل هذه الحركات؟ قال: الحب ليس له عمر، انه العمر كله·
في صباح اليوم التالي لم يستيقظ، رحل وتركني وحدي· رحل أعز الناس، وأنا في ذهول· لن يشرب معي القهوة مرة اخرى، ولن يعود حتى للحظة واحدة، رحل تاركاً رائحة وجوده في كل مكان أذهب إليه·