لا أحد يعلم أيهما كان الأكثر والأسرع تأثيراً فى تطور الآخر، وتحديث رؤيته، ومظهره أيضاً، القاهرة أم الناس، الذين باتوا يسيرون فى طرقاتها تملأ الابتسامة وجوههم، ويبدو على مظهرهم التفاؤل بالحياة وتقدير كل منهم للآخر؟
البعض يرى أن البحث عن إجابة لهذا التساؤل الآن، لا يهم، طالما أننا بتنا فخورين بعاصمتنا القاهرية الجديدة، التى يمكنك القول عنها إنها «حفيدة» المعز لدين الله الفاطمى، لا ابنته، بعد أن باتت القاهرة الإسلامية متحفاً مفتوحاً، وولدت قاهرة جديدة تسر عين كل من يراها، وآخرون يرون ضرورة البحث فى البشر والمكان، لا لمعرفة ما حدث فقط فى القاهرة فى عامنا ٢٠٢٠ الذى نحن فيه.
أحد خبراء التخطيط الشباب فى الحكومة أكد لنا أن ما حدث للقاهرة كان نتيجة لتضافر جهود الدولة ومؤسسات المجتمع المدنى والمواطنين أنفسهم، التفوا جميعاً حول مشروع تطوير القاهرة، الذى كان قد بدأ فى عام ٢٠٠٩.
ويضيف: لم نكن نتوقع كل هذا الاهتمام الشعبى والمدنى بالمشروع، ولكننا اكتشفنا مدى حاجة المصريين لهدف قومى يلتفون حوله، فقررنا عدم الاكتفاء بالإعلان عن المشروع، ولكننا فتحنا باب المشاركة وبأى شكل يفضله المواطن لمن يريد، البعض قرر التبرع بالمال، وآخرون قدموا إسهامات عينية للتطوير، وفريق ثالث شارك بيديه ضمن فريق العمل كل فى تخصصه، حتى ربات البيوت ساهمن فى التنسيق والتجميل ومشروعات النظافة، لنجد القاهرة كما ترونها الآن مدينة تستحق أن نطلق عليها وبجدارة «عاصمة مصر».
البداية كانت مع نقل جميع الوزارات الحكومية من العاصمة، إلى مجمع وزارى كبير على حدود مدينة السادس من أكتوبر بطريق الواحات، لتكون قريبة من العاصمة الجديدة التى يتم بناؤها على بعد نحو ٢٥٠ كيلو متراً من القاهرة، وستكون معدة للافتتاح عام ٢٠٤٠، أما أهم ما ميز قرار نقل الوزارات، فكان ما صحبه من قرار بنقل جميع العاملين بها إلى المقر الجديد لها، مع إنشاء مجمع سكنى متحضر لهم ولأسرهم، روعى فى تصميمه وجود مساحات خضراء، مع تزويده بجميع الخدمات التى يحتاجها قاطنه من مدارس ومستشفى طبى حديث، وناد رياضى، ومكتبة عامة، ومسرح وسينما، حتى لا تكون هناك حاجة لنزولهم القاهرة.
فى الوقت نفسه تم تزويد كل محافظة بفرع من تلك الوزارات لإنهاء مصالح المواطنين فيها فلا يضطرون للسفر إلى مقر المجمع الوزارى الجديد إلا فى حالات الضرورة القصوى.
تلك الخطوة كان لها الأثر الأكبر لتفريغ القاهرة من نحو ٢ مليون مواطن يمثلون العاملين فى الوزارات وأسرهم، وهى خطوة يقول عنها إبراهيم محمد أحد العاملين بوزارة الصحة: «لن أستطيع وصف الراحة والهدوء النفسى، الذى بت أشعر بهما أنا وزوجتى وأولادى الثلاثة، فعندما كنا فى القاهرة كانت المسافة بين بيتى فى حى عابدين وعملى بالوزارة تستغرق ساعة فى الصباح، ومثلها عند العودة رغم قرب المكان، كانت الحياة مؤلمة وغير مريحة.
ولكن اليوم أذهب لعملى وأعود منه سيراً على الأقدام، وكذلك زوجتى التى تعمل معى بالمقر نفسه، أما الأولاد فيذهبون للمدرسة على الدراجات، فالطرق آمنة ومريحة، نجتمع على موعد الغداء فى الرابعة تماماً، بات هناك متسع من الوقت نقضيه معاً ويمارس كل منا ما يحبه من هوايات».
لم تكن الوزارات وحدها والعاملون بها من تم نقلهم، حيث صدر قرار بإلغاء وزارة الإعلام، وتصفية العاملين باتحاد الإذاعة والتليفزيون، الذين كان يبلغ عددهم نحو ٣٩ ألف موظف، مع الاحتفاظ فقط بالمميزين منهم، ونقلهم إلى مقر المبنى الجديد فى مدينة الإنتاج الإعلامى بالسادس من أكتوبر، ومنحهم شققاً سكنية بنيت خصيصاً لهم على بعد نحو عشرة كيلومترات، خلف المدينة، ساهم هو الآخر فى إفراغ القاهرة من المكدسين بها.
ليس هذا فقط، بل صدر قرار جمهورى آخر ينص على حق كل من يعمل فى إحدى المدن الجديدة فى الحصول على شقة مميزة بها، تسعه وأسرته، مع إمكانية نقل شريك حياته، وتوفير أماكن لأبنائه فى مدارس المدينة التى يعمل بها، ومجازاة المخالف لهذا القرار، فصار من يعمل فى الشروق أو العاشر من رمضان أو العبور أو السادس من أكتوبر، مقيماً إقامة كاملة فى تلك المدن هو وأسرته دون أن يضطر للنزول للقاهرة فى الصباح والعودة منها فى المساء، صارت مدينة القاهرة عاصمة مريحة لساكنيها.
«أى مدينة هى مجتمع قبل أن تكون بنياناً، العمران لا يعنى الخرسان ولكن يعنى البشر» هكذا تحدث الخبير الإعلامى والكاتب الصحفى أيمن الصياد.
وأضاف: «حتى العام ٢٠١٥ كنت أشغل منصب رئيس تحرير مجلة «وجهة نظر» الشهرية، وكم كتبت عن أمنيتى فى رؤية القاهرة عاصمة مريحة لى ولغيرى من سكانها، بعد أن كانت قد وصلت إلى حالة من الترهل والضيق المزعج والمقلق فى ذات الوقت، وكان أكثر ما يزعجنى وقتها زيادة انتشار العنف الذى كان يصل لحد ارتكاب جرائم قتل على أتفه الأسباب، حتى فيمن يفترض فيهم توفير الأمن، لا اغتياله وما حدث فى القاهرة ٢٠٢٠ ولناسها، هو إحساس الراحة الذى يتبدى على الناس ويمنحهم الإحساس بالتفاؤل والثقة فى الغد، وهو ما انعكس بالتالى على مستوى الأداء فى العمل، والخوف أيضاً على كل ما يمت لهذا الحلم بصلة، حتى لو كان مجرد شجرة تم زرعها على رصيف فىالشارع، لقد اختفت اللامبالاة التى عانينا منها لسنوات ودمرت حياتنا».
حديث الإعلامى أيمن الصياد تؤكده الأرقام الصادرة من الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، حيث تبين من دراسة تم إجراؤها مؤخراً ارتفاع معدلات الإنتاج القومى للمصريين.
وبعد أن كان معدل عمل المصرى لا يتعدى ٢٧ دقيقة فى اليوم الواحد، صار المعدل اليومى للإنتاج سبع ساعات، وزاد معدل نمو الناتج القومى من ١٠٪ إلى ٣٠٪ لتتقدم مصر على جنوب أفريقيا، وتصبح الدولة الأولى أفريقياً، والثانية بعد الإمارات والسعودية فى معدلات الإنتاج العربية، برصيد ٣٠٠ مليار دولار سنوياً، وهو ما دعا الدول الصناعية الكبرى للبدء فى دراسة طلب مصر الانضمام لعضويتها باعتبارها باتت واحدة من الدول الصناعية التى يبشر مستقبل سنواتها المقبلة بالتقدمين الصناعى والاقتصادى.
لم تنس الحكومة عند تفكيرها فى القاهرة الحديثة كارثة ٨١ منطقة عشوائية كانت تحتل القاهرة، وكان يعيش بها نحو ثمانية ملايين نسمة من بين ١٥ مليوناً يشكلون سكان العاصمة، وكانوا يحتلون نحو ٤٥٪ من مسطح العاصمة القاهرة: حيث تمت إقامة مجتمعات عمرانية فى المدن الجديدة وفقاً لنظم عالية الجودة، لسكان تلك المناطق تتوافق واحتياجاتهم وما يمكنهم القيام به من أعمال ومهن، بعد عمل دراسة خاصة بهم وبأسرهم، ونقل ملكيتها لهم وتحصيل ثمنها منهم على أقساط سنوية تتناسب مع دخولهم فى مدنهم الجديدة.
وتمت توسعة شوارع القاهرة بعد إزالة العشوائيات التى أقيمت محلها حدائق مصممة على أحدث طرز التنسيق الحضارى العالمى، لتستعيد القاهرة وجهها الأخضر، الذى اشتهرت به فى الماضى من خلال حدائق شهيرة، مثل حديقة الأزبكية وحديقة الأورمان، وأحيطت تلك الحدائق بمقاه حديثة لا تقدم الشيشة، ولا الطاولة أو الدومينو، لعدم إزعاج روادها الراغبين فى الهدوء.
وعلى أحد تلك المقاهى التقيت السفير عبدالرؤوف الريدى، كان يجلس يحتسى قهوته الأمريكية المفضلة، ويقرأ جريدته الصباحية، ورغم سنوات عمره التى جاوزت السبعين فإنه كان يبدو مستمتعاً بما آل إليه حال القاهرة، وهو ما وضحه قوله: «نشأت فى القاهرة الجميلة، وحزنت لما كان قد أصابها من عشوائية فى كل شىء، وبخاصة مع عقدى للمقارنة بينها وبين ما زرته بحكم عملى بالخارجية من عواصم، وتمنيت أن يعود لها بهاؤها، وكنت أظن أن حياتى ستنتهى قبل أن أراها منتعشة مرة أخرى».
وتساءل: من كان يصدق أن تعود الحدائق الخضراء لقلب القاهرة، ويصبح فى مقدورك السير فى طرقاتها ومشاهدة محالها دون أن تضيق بالسير فيها، من شدة الزحام والعشوائية؟ مضيفاً: ورغم الجهود التى بذلت لإعادة هذا الوجه الباسم لها، فإن أشد ما بهرنى فى القاهرة ٢٠٢٠، هو وسائل المواصلات التى باتت أكثر آدمية، تركب الحافلة من المحطة المخصصة لها فى الموعد المحدد لوصولها، حتى إننى كنت فى إحدى الحافلات أمس الأول أثناء عودتى لمنزلى بعد جولة بوسط العاصمة.
ووجدت سائحًا يسأل السائق عن محطة ما، فقال له السائق إننا سنصلها فى الثامنة والعشرين دقيقة بالضبط، وهو ما كان، وفى يوم آخر وأنا أنتظر الحافلة على المحطة التقيت وزير التخطيط، الذى اكتشفت أنه ينتظرها مثلى، لقد صارت وسائل النقل العامة مفخرة لأى مصرى، كما ساعدت فى التقليل من اعتماد الناس على سياراتهم الخاصة».
وبالفعل صار الانضباط المرورى وإنسيابيته، ملمحًا من ملامح القاهرة المهمة، ليس فقط بسبب تطور أداء القائمين على المرور، الذين صاروا أشبه بضباط الحرس حول قصر باكنجهام الملكى فى لندن، ولكن بسبب التخطيط الجيد أيضًا لطرق العاصمة المصرية، الذى وفر شبكة من الطرق الرائعة، يميزها إلى جانب الاتساع، وجود مساحة الرصيف المتاح لصالح حركة المارَّة بنسبة ٢٦٪ من إجمالى حركة المتنقِّلين بالقاهرة، وهو ما أثر على تراجع حالات الوفيات والإصابات الناتجة عن حوادث المرور، وقلل من حجم الخسائر المادية الناتجة من حوادث المرور والتى كانت تتراوح فى السنوات الماضية بين ٣ و٤ مليارات جنيه سنويًا.
«ليس الانضباط المرورى فقط هو ما يسعدنى فى القاهرة الجديدة، بل احترام القائمين على المرور مشاعر المواطن وآدميته»، تلك كانت كلمات الفنان أشرف زكى الذى شغل فى وقت من الأوقات منصب نقيب المهن التمثيلية، وأضاف: «عندما يتم تغيير مسار أحد الشوارع أو إغلاقه لأى سبب، يتم التنويه عن ذلك فى وسائل الإعلام المختلفة وقبلها بنحو يومين حتى لا يفاجأ المواطن بهذا التغيير الذى قد يعطل مسار يومه».
ولم يكن الزحام والاختناق المرورى فقط هو ما اختفى من شوارع القاهرة، ولكن أيضًا اختفى ما كان يعرف بظاهرة «أطفال الشوارع»، لا بإيداعهم مؤسسات تزيدهم إجرامًا على إجرامهم، ولكن بإلحاقهم بورش تدريب تابعة لعدد من المصانع التى تنتشر فى المدن الصناعية المصرية، وهى مبادرة تم التعاون فيها بين الحكومة، ورجال الأعمال وأصحاب المصانع، حيث تتولى الحكومة التدريب النفسى والتأهيل الاجتماعى والتربوى لهؤلاء الأطفال، بينما يتولى رجال الأعمال مسؤولية الإنفاق المادى على تدريبهم وتعليمهم، وإيجاد أعمال تدر عليهم دخلاً ماديًا ثابتًا. مع إتاحة الفرصة لمن يريد منهم إتمام تعليمه.
بحق هى «قاهرة الحلم» الذى كنا نتمناه جميعًا، سعداء نحن الآن بقولنا إننا مصريون، نفخر بجنسيتنا وهويتنا، نعلم أبناءنا ضرورة السعى وراء تحقيق الحلم والتشبث به دون اليأس من تحقيقه.
فلا نعرف المستحيل وبخاصة فيما يتعلق بمستقبل بلادنا الذى سنتركه لأولادنا من بعدنا، والدليل هو نجاحنا فى القضاء على التلوث الذى كان إحدى سمات مصر كلها وبخاصة القاهرة حتى باتت تنافس لندن فى معدل نقاء جوها، فأنت لا تصدق نفسك وأنت تسير فى شوارع القاهرة فى أى جزء منها، تتنسم نسيمها العليل الذى كنا نسمع عنه من أجدادنا أو يصفونه لنا فى الكتب المدرسية، لم تعد هناك رطوبة عالية فى الجو، ولم تعد الحرارة خانقة، لتفتح رئتيك فتسحب ما شئت من هواء نقي.
اختفت تلك السحابة السوداء ذات الغيم الثقيل، التى كانت تخيم على سمائها فتحجب عن المصريين رؤية القاهرة إلى آخر مدى، وتغيرت أرقام الدراسات التى كانت تؤكد ارتفاع نسبة تلوث الهواء فى القاهرة عن الحدود العالمية، نتيجة لوجود ملوثات الدخان وثانى أكسيد الكبريت، وما تتسبب فيه عوادم السيارات من زيادة نسبة الرصاص فى طبقات الهواء السفلى، لم تعد القاهرة تحتل مكان الصدارة بين دول العالم المختلفة فى درجة التلوث.
وهو ما أكدته دراسة دولية أشارت إلى أن نسبة الرصاص فى هواء العاصمة المصرية لم تعد تتعدى ٤ ميكروجرام/م٣ لكل متر مكعب، بعد أن كانت فى العام ٢٠٠٨ قد بلغت ١٤.٩ ميكروجرام/م٣، مقتربة فى معدلها الجديد لنسبة التلوث بها من العاصمة الألمانية برلين، التى يبلغ نسبة الرصاص فى هوائها ٣.٨ ميكروجرام/م٣، ومتفوقة على لندن التى يقدر نسبة الرصاص فى جوها بنحو ٤.٤ ميكروجرام/م٣.
القضاء على التلوث بالقاهرة لم يكن بالأمر السهل بالطبع، وبخاصة مع ارتفاع أعداد المصانع التى كانت تعمل بلا أى نظم لحماية البيئة، ولكن وقفت قوانين الدولة موقفًا صارمًا من كل مخالف، مهددة بإغلاق أى منشأة لا تنطبق عليها القواعد التى وضعتها لحماية البيئة.
والطريف فى الأمر أن الموظفين الذين اعتادوا الحصول على رشاوى مقابل تجاهل تلك المخالفات باتوا الأحرص على ضبطها، بعد أن شعروا هم الآخرون بنتائج هذا التطوير الذى شهدته القاهرة. أما ظاهرة حرق قش الأرز فقد اختفت بعد تعاقد الدولة على شراء تلك الكميات من الفلاحين واستغلالها فى صناعات مختلفة كالسماد، والكربون، وبعض الصناعات الورقية.
فى ذاكرة السينما المصرية، فيلم يحمل عنوان «أيام الغضب» قام ببطولته نور الشريف ويسرا وإلهام شاهين، وأنتج فى تسعينيات القرن الماضى، يحكى قصة شاب اغترب فى دول الخليج عدة سنوات ويعود ليجد زوجته - ابنة عمه فى ذات الوقت - استولت على مدخراته والشقة التى اشتراها، ويكون مصيره مستشفى الأمراض العقلية.
يبدأ الفيلم بمشهد له وهو عائد فى الطائرة مشتاقًا للوطن يقول: «مصر حلوة أوى من فوق» وينتهى بمشهد له حزين فى سيارة الترحيلات، التى تصحبه للمستشفى وهو ينظر من نافذتها الضيقة ويقول ساخرًا: «مصر حلوة أوى من فوق».
ولكن القاهرة لم تعد جميلة من أعلى فقط - كما يقول المخرج والسيناريست بشير الديك، صاحب الفيلم - بعد أن تخلصت من ثقافة الزحام التى كان تأثيرها قد وصل لسلوكياتنا تجاه بعضنا البعض» ويضيف: «كان المكان الذى يسع ٢٠٠ فرد، يتواجد به ٢٠٠٠، وكان على كل واحد منهم أن يجد لنفسه مكانًا حتى لو أزاح من طريقه من هو بجواره، ولكننى أعتقد أن الحياة فى مصر تغيرت بعد هذا التخطيط المنظم، الذى صحبه وضوح الرؤية لما نريد القيام به، والإدارة اللازمة للتنفيذ».
جزء من جمال القاهرة الآن يعود لاختفاء أكوام القمامة الملقاة فى الطرقات، والتخلص من رائحتها النفاذة العفنة، التى كانت تشعرنا بما نحياه من واقع، طغت عليه رائحة العفونة فى كل شىء وبلا استثناء. فالقاهرة كانت تنتج يوميًا ٥٠٠٠ طن من القمامة، كان يتم تجميع ونقل نحو ثلثى تلك الكمية، وترك الثلث المتبقى فى الشوارع والطرقات ومقالب القمامة داخل المناطق السكنية ومناور المنازل ومداخلها وأمامها.
ولكن هذا المظهر اختفى بعد إنشاء مصانع لإعادة تدوير وتصنيع المخلفات، وطحن غير الصالح منها ليذهب مع مياه الصرف الصحى دون التأثير على سعة الأنابيب. وهى ظاهرة يعلق عليها المصور الفوتوغرافى الشهير عادل مبارز بقوله: «عندما اشتريت شقتى التى أسكن بها الآن فى حى المهندسين منذ نحو ٣٠ عامًا، اقترحت على السكان إنشاء صندوق رخامى فى قلب الحائط للاحتفاظ بأكياس القمامة لحين حضور الزبال ونزعها، الفكرة لم تتكلف أكثر من ١٠٠ جنيه وقتها، ولكنها قوبلت بالمعارضة من قبل البعض ولكننى أصررت على تنفيذها، لتصير العمارة أنظف مبنى فى الشارع وهو ما انتقل بالتبعية إلى بقية المبانى المحيطة بنا.
نعم القاهرة كانت تنقصها النظافة، والرائحة الجميلة، ولكنها باتت نظيفة الآن بشكل آدمى مدهش، ولن أنسى مشهد وقع أمامى أمس حينما ألقى رجل كان يسير فى الشارع بورقة كان يلف بها ساندوتش كان يأكله، فأمسك شاب بالورقة وجرى خلفه طالبًا منه إلقاءها فى أى صندوق قمامة أمامه، وعندما هم الرجل بالقول للشاب «إن هذا ليس بشأنه» حضر رجل شرطة سريعًا، وهدد الرجل بتغريمه ١٠٠٠ جنيه إن لم يفعل ما طلبه منه الشاب، لقد تغيرنا وصرنا أكثر تعاونًا وانتماءً وانضباطًا، والسر فى العاصمة التى منحتنا تلك الروح الجديدة».
وأخيرًا يمكنك التمتع بالسير فى القاهرة الفاطمية, التى باتت متحفًا مفتوحًا غير مخصص لسير السيارات بها، تتذكر آل البيت وأنت تمر بجوار مسجد الحسين، ومؤسس عاصمتنا المعز لدين الله الفاطمى، وأنت تشاهد الجامع الأزهر، وعهد المماليك وأنت تلقى بنظرة على وكالة الغورى. وبكل الأحوال تمتع فأنت فى القاهرة، العاصمة التى تجمع بحق بين عراقة الماضى وحداثة المستقبل.
المصرى اليوم