لا يكاد يمر يوم إلا تطالعنا واقعة تعذيب وعنف وانتهاك جديدة، تقوم فيها وزارة الداخلية بسحل المواطنين وتأديبهم وإذاقتهم صنوفا وألوانا من الإهانة والتحقير والإيذاء البدني، وفي جعبة الشرطة أشكال عديدة لانتهاك البشر لا تتوقف عند الضرب والصفع بل تتعداه للصعق والحرق وهتك العرض، وقد تصل في أحيان كثيرة للقتل.
والأسباب التي من أجلها تنتهك الشرطة آدمية وكرامة المواطن (إذا جاز أن تكون هناك أسباب) لا حصر لها، فقد يتم تعذيب شخص ليعترف بما لم يرتكب، مثلما حدث مع المواطن السكندري الذي اعترف تحت وطأة التعذيب بقتل ابنته ثم تم العثور عليها حية.. قد يتم كذلك اعتقال عائلة بأكملها والتحرش بنسائها ورجالها واحتجازهم كرهائن لإجبار أحد الأقارب الهاربين بتسليم نفسه، وهو ما حدث مع عائلة حلوان الشهيرة.. وقد يتعرض المواطن أيضا لعنف همجي من قوات الأمن لمجرد أنه جرؤ علي اصطحاب ابنته الصغيرة إلي وقفة سلمية أمام مدرستها المغلقة قسراً، ذلك العنف الذي أدي برجل في ريعان الشباب أن يرقد فاقدا للحركة ومصابا بشلل رباعي تام لا شفاء منه.
لا يقتصر الأمر علي هذا، بل يمكن أن يتحرش أفراد الشرطة كذلك بمواطن دخل إلي القسم شاكيا وليس مذنبا، وهو ما حدث مع الفتاتين اللتين حاولتا عمل محضر ضد سائق ميكروباص عمد إلي لمس جسد إحداهما، فما كان من ضباط القسم إلا أن أكملوا مشهد التحرش بأيديهم.
باختصار يتم تعذيب المواطن في القسم وفي أماكن أخري إذا كان شاكيا أو مشكوا في حقه، ظالما أو مظلوما، متلبسا أو مشتبهاً به أو حتي عابر سبيل.. في مصر يتم تعذيب المواطن لأنه يحمل في خانة الجنسية ببطاقته كلمة (مصري)، دون أن تكون له واسطة أو "ظهر".
أعتذر للقارئ الصبور علي تصدير المقال باستعراض هذا الجزء من وجه النظام القبيح الجاثم علي الأنفاس، لكن تلك النظرة السريعة للمشهد تفضح واقعنا الحالي وتعريه، وتجعلنا ندرك أن المهانة صارت مفردة من مفردات حياتنا اليومية.. خبر ثابت في صفحات الحوادث، نتعايش معها صاغرين دون أن نزعق أو نرفض أو حتي نتململ في مضاجعنا ونستغيث.. صارت عناوين جرائم التعذيب روتينية متكررة، تشبه باب «حظك اليوم» الذي لا تكتمل جريدة دونه، ومع هذا ما زلنا نقرا تعقيبات وزارة الداخلية المبكية المضحة العجيبة في آن، وما زلنا نتغاضي عن التصريحات التي تؤكد علي أن التعذيب سلوك فردي شخصي استثنائي، لا يمثل ظاهرة ولا تسلكه سوي قلة منحرفة لا تنتمي للشرطة الوديعة المسالمة!! إن قيمة المواطن المصري استحالت إلي صفر كبير بفضل سياسة النظام القائمة علي الإذلال والترهيب، تلك السياسة التي جعلته في أسفل الدرك، بحيث صار مستباحا من الآخرين دون حدود.
تبخرت كرامتنا وسقطت أرضا حتي لم يعد بإمكاننا للأسف أن نعيب علي الأنظمة الأخري شراستها في معاملتها لنا، فهي إنما تفعل ما يفعله النظام المصري بنا ليس إلا، إن المواطن المصري الذي يحاكم داخل مصر أمام محاكم عسكرية لا يجوز الاعتراض علي أحكامها، يحاكم خارج مصر في محاكم سرية تغلظ الحكم عند استئنافه، وفي حين تتم معاقبته خارج مصر بالجلد والسجن، فإنه يعاقب داخل مصر بالحرق والضرب وانتهاك العرض، وفي الحالتين والموقعين قد يعاقب المواطن علي أشياء لم يرتكبها وعلي تهم لم تثبت إدانته فيها.. وفي الحالتين أيضا تتفق الشراسة مع القبح علي التمادي في الإذلال فيستعينا بطرف ثالث يزعمان كونه طبيباً، ويوكلان له أداء المهمة السامية، وهي إبقاء المواطن الضحية علي قيد الحياة لاستكمال تعذيبه، مساعدة له علي أن يفي بالعقوبة كاملة، إذ إنه من العار أن يموت قبل الحصول علي حقه ونصيبه العادل من الإهانة والقهر والألم.
حقا لقد حظينا بفرصة عظيمة ونادرة بفضل سياسة النظام القائم الذي حالفه التوفيق في أداء رسالته الجليلة وإتمامها بنجاح منقطع النظير، فقد صار المواطن المصري نموذجا فريدا كونه يولد وينمو وينضج ويرحل ويؤوب وهو أبدا مهان وذليل.. صدق المتنبي إذ قال (من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام)
البديل