فى يوم الأحد ٢-١١-٢٠٠٨ لقى فضيلة الدكتور محمد سيد أحمد المسير أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر ربه، حيث توفى عن عمر يناهز ٦٥ عاما، بعد صراع مع المرض الذى أصاب كبده وأودى بحياته، والحقيقة أننى لم أعلم بخبر الوفاة إلا من خلال خبر صغيرعلى استحياء مع صورة أصغر فى صفحة الدولة الداخلية فى جريدة الأخباريوم الإثنين، وأخذت أبحث يومها فى باقى الجرائد عن أى خبر يتعلق بفقيد الأمة الإسلامية، وأحد علماء الدعوة الوسطيين غير المفرطين فلم أجد، ولم أستطع أن أؤدى واجب العزاء فى أخ فى الله أعتز به كثيراً، وأستاذ فاضل تعلمت منه الكثير،
وعالم عظيم له اجتهادات وآراء فى تطوير الفكر الإسلامى والدراسة بجامعة الأزهر، وشيخ سمح تستريح نفسك حين تسمعه، وصديق عزيز يغمرك بفضله بالسؤال عنك وهو الأكبرسناً والأكثر علماً وقدراً، وأحد علماء الأزهرالشريف الذين ساهموا بفكرهم وأبحاثهم ودراساتهم فى ربط الدين بالحياة من خلال العديد من الكتب والمؤلفات التى تتجاوز الأربعين حول مختلف القضايا الإسلامية، كما شارك فى العديد من البرامج الإذاعية والتليفزيونية، حيث كان يتميز بسماحة وقبول غير عاديين يجعلان المشاهد يتعلق به ويحبه، ويقتنع بآرائه، مع الحسم والدقة فى الرد فيما يتعلق برأى الشرع فى القضايا المختلفة، فقد اتسم د. المسير بالجرأة فى الحق والدفاع عنه مهما كان الثمن،
ولم يخرجه اختلافه مع الآخرين عن عفة لسانه وسماحته، فلم يتطاول على المخالفين له فى الرأى أبداً، وكان الدكتور المسير قد أطلق منذ بضعة أشهر حملة شعبية تدعو إلى الرجوع إلى «الحياء» فى محاولة منه لمواجهة ظاهرة تردى الأوضاع الأخلاقية واختفاء صفة «الحياء» من الشارع العربى، ويروى عن رسولنا الكريم ما معناه: أن الله لا يقبض العلم مرةً واحدة و لكن يقبضه بانتزاع العلماء. وأحسب أنه من هؤلاء العلماء، وتلك من علامات الساعة .
كان الدكتور المسير قد دخل إلىالعناية المركزة فى مطلع الشهر الماضى متأثرا بمضاعفات مرض فى الكبد مما يستلزم إجراء جراحة عاجلة لزرع كبد، وسافر بالفعل إلى الصين لإجراء عملية زرع كبد، لكن الأطباء هناك رفضوا إجراءها نظرا لتدهور حالته الصحية بشدة، ونصحوه بالعودة إلى مصر، وما هى إلا أيام معدودات حتى ازداد عليه المرض، ودخل إلى المستشفى، حيث انتقل إلى جوار ربه راضياً مرضياً. وفى جريدة الوسط أرسل الطبيب أحمد جلال فؤاد هذه الرسالة التى قرأتها على النت حيث يقول: « ترددت لفترة قبل كتابة هذه الرسالة، فنحن كأطباء لاينبغى لنا أن نتحدث عن خفايا المرضى مهما كانوا،
إلا أننى من ناحية أخرى أحببت أن يشاركنى أحباب وتلاميذ العالم الجليل الأستاذ الدكتور محمد المسير -رحمه الله رحمة واسعة- الفرحة بحسن خاتمة الشيخ، فيوم أمس السبت (قبل يوم الوفاة بيوم) كنت أعمل فى المستشفى الذى لقى فيه الشيخ وجه ربه الكريم،وحدث أن طُلب منى عمل أشعة تلفزيونية للشيخ فى وقت متأخر من ليلة أمس، ولم أكن أعرف أن «محمد السيد أحمد» المريض فى الرعاية هو فضيلة الشيخ د. محمد المسير!!، علمت بذلك أمام سريره رحمه الله، وأصابنى الحزن لرؤيته على فراش المرض، لكن الشيخ كان- وعلى الرغم من تأخر حالته وقتها- دائم الذكر لله، وكانت سبابته اليمنى فى حركة التوحيد كما فى التشهد. وحدث أن الشيخ أشار بيده لمن حوله، فقاموا برفع قناع الأكسجين ليسمعوه،
وقال: (مش عايزه، خلاص) ولكن الأطباء هموا بوضعه مرة أخرى، فأشاحه بيده و نظر إلى أعلى ثم مد يده للأعلى، وكأنه يستعجل لقاء ربه، ووضع القناع، وعندها سمعناه يردد الشهادة و يحرك أصبعه كما فى التشهد، ثم طلب رؤية أولاده، وقبل وفاته بقليل كنت عند سريره عندما دخل فى نزاع الموت، وهى مرحلة يفقد فيها المخ التحكم فى أعضاء الجسم، ويفقد فيه المريض وعيه تماماً،
وما اقشعر له بدنى رؤيتى للسبابة اليمنى للشيخ، كانت العضو الوحيد الذى يتحرك، فقد كان يتحرك كما لو كان فى التشهد، كما لو كان يقوم مقام اللسان فى نطق الشهادة، لحظتها أدركت أن جوارح الشيخ كانت فى طاعة ربها على الدوام، وفى اللحظة التى توقفت جارحة العقل عن ذكر الله، أبت جوارح الشيخ إلا أن تسبح وتعلن توحيدها لله سبحانه و تعالى، فقد صدق قلبه وعقله ولسانه طوال حياته فصدقت جوارحه حتى عند مماته. رحم الله الشيخ المسير رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء، وألهم أهله والمسلمين الصبر والسلوان. وإنا لله و إنا إليه راجعون».
والحقيقة أننى لا أعرف إن كان ذلك من قبيل الصدفة أم لا، فقد كنت فى سفر إلى المغرب أخيراً، ومن بين كل الكتب التى كانت لدى وكنت أنوى قراءتها فى أول سفرة لى، اخترت كتاباً للدكتور محمد المسير بعنوان: «الروح فى دراسات المتكلمين والفلاسفة»، ومعه كتاب المفكر الراحل عبدالرزاق نوفل: «الحياة الأخرى» الذى أعارنى إياه الإعلامى المتميز محمد فهيم الرئيس الأسبق لصوت العرب،
فقد أصبحت شغوفاً فى الفترة الأخيرة بقراءة كل شىء عن الروح والنفس، والفرق بين الموت والوفاة، والجسد المادى والجسد الأثيرى، والحياة البرزخية وغيرها من تلك الموضوعات التى كنت أنوى الكتابة عنها، وفى مقدمة كتابه عن الروح إهداء من الدكتور المسير إلى أمه يقول فيه: إلى أمى..
التى علمتنى القرآن استجابة لبشرى رؤيا صالحة حين الوضع، أُعطيَت فيها دواة ولوحاً، وقيل لها: أقرئيه القرآن. وقد فعلت يا شيخنا العظيم، وانتفعت ونفعت بك، رحمة الله عليكما، وغفر الله للشيخ وأسكنه فسيح جناته، اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، اللهم أكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وألهمنا وأهله وذويه الصبر والسلوان