اللي بني مصر كان في الأصل حلواني «عبارة نرددها دون التعمق في معناها، مختصرين بها حلاوة مصر ومدنها الممزوجة بعشق المصريين لها، والذين لم يجدوا مبرراً لذلك العشق سوي نسب المحروسة للحلواني. القصة يا سادة تعود إلي جوهر الصقلي، قائد المعز لدين الله الفاطمي، الذي عهد له ببناء القاهرة العاصمة الجديدة لمصر في العهد الفاطمي.
حيث تعود أصول الصقلي إلي طائفة الأرمن في كرواتيا التي ولد بها وعاش قبل انتقاله الي صقلية التي عرف بها، وكان يجيد صناعة الكنافة والحلوي قبل بيعه كمملوك للخليفة المنصور بالله الفاطمي الذي ألحقه بالجيش فأثبت كفاءته وترقي فيه حتي صار أشهر قواده.
ومع بنائه القاهرة عام ٩٦٩ ميلادية، وحمداً لما قام به، أطلق المصريون، عبارتهم الشهيرة «اللي بني مصر كان في الأصل حلواني».
قبل القاهرة كان لمصر العديد من العواصم منها ما سبق الفتح الإسلامي، ومنها ما تلاه. حيث كانت البداية مع مدينة «حري عحا» أقدم مدن منطقة مصر القديمة وكان ذلك في ٦٣٣٥ قبل الميلاد، وأسست علي هيئة عسكرية للدفاع عن العاصمة «أون»،٤٣٤٠ قبل الميلاد، التي تعني بالهيروغليفية «برج رصد الشمس»، وأون من أقدم العواصم التي عرفتها مصر.
وامتدت تلك المدينة التي تحور معناها إلي «عين شمس» ومنها هليوبوليس في عهد الإغريق، من أرض النعام بالمطرية، ذات الأشجار المقدسة إلي منطقة هليوبوليس التي كان بها أقدم جامعة عرفها العالم، وتخرج فيها العبقري «أمنحتب»، والملك الموحد «إخناتون».
وفي عام ١٣٠٠ قبل الميلاد كانت العاصمة «بابليون» التي بناها رمسيس الثاني وجعلها معتقلاً لأسري البابليين الثائرين عليه، ولتتحول إلي مدينة عسكرية في عام ١٣٠ قبل الميلاد. وضمت في العهد القبطي العديد من الكنائس، كان أهمها القديس «سرجيوس» أقدم كنائس العالم المسيحي، وكنيسة «مارجرجس»، والكنيسة المعلقة التي تقع في منطقة مجمع الأديان الذي يضم جامع عمرو بن العاص، والمعبد اليهودي الآن.
وليأتي بعد ذلك الفتح الإسلامي الذي عرفت من خلاله مصر عدداً من العواصم بدأت بالفسطاط التي أنشأها عمرو بن العاص بالقرب من حصن بابليون عام ٣٠ هجرية ـ ٦٤١ ميلادية ـ وبدأت ببناء الجامع ثم تخطيط الأرض من حوله وتقسيمها إلي أحياء قسمت بين القبائل سكنت كل قبيلة من القبائل، وكان لكل منها مسجد خاص بها، بينما كان جامع عمرو، مركز الصلاة الجامعة، والحكم، والقضاء، ودروس الدين. كما تعددت بالفسطاط أسواق بيع البضائع المختلفة.
وبعد الفسطاط جاءت «العسكر»، التي أنشئت عام ١٣٠ هجرية٧٥٠ ـ ميلادية ـ علي يد أبوالعون العباسي حاكم مصر، وبناها بالقرب من الفسطاط التي تلاحمت بها حتي صارت مدينة واحدة، ولكن كثر فيها إنشاء المساجد والقصور والحمامات العامة.
وترجح الخرائط القديمة موقعها بين مسجد عمرو بن العاص وجامع ابن طولون في منطقة السيدة زينب الحالية، وعلي مساحة ٨٠٠ فدان بين جبل المقطم، وجامع ابن طولون، أنشئت «القطائع» العاصمة الثالثة لمصر بعد الفتح الإسلامي علي يد أحمد بن طولون، الذي حكم مصر بعد زوال الدولة العباسية عام ٨١٠ ميلادية.
كان السبب في إنشائها شكوي المصريين من ازدحام مدينة العسكر وجامعها، وتميزت بكثرة مبانيها العامة والمستشفيات والحمامات والمخابز. وظلت مقراً للحكم في مصر حتي عام ٩٠٥ ميلادية حيث تم تخريبها تماماً علي يد العباسيين، وعاد مقر الحكم إلي مدينة العسكر التي ظلت العاصمة حتي إنشاء القاهرة.
وعند الحديث عن القاهرة لابد أن نفرق بين قاهرتين، «الفاطمية» التي أنشئت في العام ٩٦٩ ميلادية، وقاهرة صلاح الدين الأيوبي التي أنشأها عام ١١٧١ ميلادية. الأولي أنشأها جوهر الصقلي مستمداً اسمها من «النجم القاهر» الذي ظهر في سمائها عند وضع الأساس لها، ولتصبح القاهرة عاصمة الدولة الفاطمية بعد إنشائها بـ٤ سنوات. وقد بدأت ببناء السور والبوابات قبل الجامع الأزهر، وفي مركزها كان القصران الخاصان بالخليفة، وليكون ما بينهما حي «ببن القصرين».
وليخرج منهما شارع المعز بتفرعات طرقه وأزقته. أما قاهرة صلاح الدين الأيوبي، فضمت ضواحي القاهرة من الفسطاط والعسكر والقطائع والقاهرة الفاطمية، وليشيد قلعة الجبل التي باتت مقراً للحكم في مصر وهو ما استمر حتي عهد الخديو إسماعيل الذي نزل بمقر الحكم من القلعة، إلي قصر عابدين، الذي بناه في قلب قاهرته الجديدة التي توسع في عمرانها ليجعل منها باريس الشرق.