شهود واقعة التحرش الجنسي الجماعي التي حدثت ثاني أيام العيد، قالوا إنها بدأت بكلمة ألقاها المتهم الأول في القضية حين شاهد اثنتين وسط مجموعة من الفتيات يعبرن الشارع، حيث صرخ قائلا "غنيمة"، وكما لو كانت كلمة غنيمة هي كلمة السر، اندفع هو ومن معه نحوهن ثم شاركهم عدد من الشباب الذين كانت تزدحم بهم شوارع المهندسين تلك الليلة. الشاب الذي صرخ بكلمة السر ورفاقه جاءوا من منطقة ناهيا، وحسب التحقيقات فإنهم قد عبروا من ناهيا إلي المهندسين للاحتفال بالعيد. وبالنسبة لأهالي ناهيا وغيرها من المناطق الفقيرة التي تناستها الحكومة أو التي لم تردها في خرائط تنميتها أو التي لم تعمل حسابها في معدلات التنمية التي يعلن عنها وزراء البدل والكرافتات، بالنسبة لأهالي هذه المناطق فإن "الغنيمة" تعني المجتمع ككل، ففي خضم الاحتفال الكرنفالي بالعيد فإن الأولاد المرتدين ملابسهم الجديدة النظيفة.. غنيمة، وأبناء جيلهم الذين يركبون سيارات فارهة أو غير فارهة.. غنيمة، ومحلات الأكل ذات الطراز الأمريكي.. غنيمة، والأولاد الذين يصطحبون البنات لكافيتريات المهندسين.. غنيمة، والشباب والفتيات الذين يزينون كلامهم بكلمات إنجليزية ويضحكون ضحكات مطمئنة.. غنيمة.
ما أعنيه أن حادث التحرش الجنسي لم يكن إلا مفردة في قاموس التحرش الأكبر الذي سوف يلتهم الجميع قريبا، إن هؤلاء الذين لا تخصهم عبارة الفكر الجديد "مصر بتتقدم بينا"، وهؤلاء الذين لا يعنيهم أي من رجال الحكومة حين يقولون "الشعب المصري"، وهؤلاء الذين حرمتهم سياسات المجموعة الاقتصادية من الحياة الإنسانية، كان من المؤكد أنهم سوف يندفعون لالتهام الغنيمة حتي ولو لم تكن تلك الغنيمة فتاة عابرة، كان من المحتمل أن تكون حقيبة ملقاة في عرض الشارع وممتلئة بالمال أو محل ملابس يتم السطو عليه من بعض المسجلين خطر أو غيرها غنيمة لهؤلاء الذين لم يشعروا بقوتهم إلا في لحظة اجتماعهم ككتلة من المحرومين في مواجهة المجتمع، فإذا كانت فتاة عابرة بمفردها أو بصحبة فتي جميل قد تحولت إلي غنيمة رمزية لما تم حرمانهم منه، فإن المجتمع نفسه سوف يتحول في لحظة ما إلي غنيمة ليست محرمة لهؤلاء حين يشعرون أنهم صاروا كتلة قوية قادرة علي اقتحام المجتمع.
لا أعني طبعا إلقاء اللوم علي هؤلاء الفقراء كما لو أن الأغنياء أو الميسورين أبرياء بالفطرة، ولكن ما أعنيه هو ضرورة النظر إلي الحدث في ضوء رمزيته الاجتماعية وليس في دلالته المباشرة. مقتل سوزان تميم مثال علي ذلك، فقد أمكن رؤيته في ضوء رمزيته باعتباره علامة علي تلاحم السلطة برأس المال وليس في إطاره القانوني المباشر كجريمة قتل، فإذا كان من البديهي أنه ليس كل جريمة قتل جريمة قتل، فإنه من البديهي أيضا أنه ليس كل تحرش جنسي تحرشًا جنسيا. الواقعة هي واقعة تحرش بالمجتمع، تحدث في أماكن تجمعات الشباب نعم، ولكنها تحدث في أماكن تجمعات الشباب القادمين من خلفيات اجتماعية مشابهة.
دليلي علي ذلك أن أيا ممن يساوونهم عمريا ويختلفون عنهم اجتماعيا لم يكن ليشتركوا في هذا الفعل، فإن أيا من الشباب الذين يصطحبون فتياتهم لن يعتبر فتاة عابرة غنيمة أبدا، أي من الشباب العابرين في طريقهم لملاقاة حبيباتهم أو صديقاتهم أو زميلاتهم لم يكن ليشارك الكتلة المندفعة نحو هدفها. قد يكون من البديهي طبعا التفكير في الطريقة التي صار المجتمع المصري في عمومه ينظر بها نحو المرأة، وفي توحش الفكر المتعالي تجاهها، ولكن النظر إلي الفعل الجماعي (التحرش الجماعي كمثال) يستلزم تفكيرا اجتماعيا في هذه الحالة. وهنا نحن لسنا بصدد كتلة مختلطة من عموم المصريين، ولكننا بصدد كتلة منسجمة من سكان المناطق الفقيرة، المناطق التي لا تعرف عنها لجنة السياسات سوي أنها أورام يجب التخلص منها، أو التنكر لها لبقاء صورة مصر الملونة كما تظهر في إعلانات الحكومة كموديل في الكليبات الصاخبة.
في لقاء تليفزيوني جمع أمي كل من المتهمين الأول والثاني في حادث التحرش الجماعي قالت إحداهما إن ابنها يعمل في محل لبيع الأدوات المنزلية، من الثامنة صباحا وحتي الثامنة مساء، وذلك ليتقاضي نهاية كل شهر مبلغا وقدره أربعمائة وخمسون جنيها مصريا لا غير، أي أن أجره عن اليوم الواحد خمسة عشر جنيها، ورغم أنهما ـ هي وابنها علي الأقل ـ بلا عائل فإنها أكدت أن ابنها "بيحوش عشان يتجوز" كما أكدت أيضا أنه "مُعجب" بإحدي جاراته، ما لم تقله الأم إن ابنها مضطر لأن يتوقف عن العيش (أكلا وشربا وعلاجا) لمدة لا تقل عن عشر سنوات علي الأقل كي يتمكن من الزواج من جارته التي من المحتمل جدا أن تتزوج خلال هذه السنوات العشر من رجل عربي ليعبر بها البحر لعام أو لعامين ثم يعيدها إلي أهلها بصحبة عدد من "الغوايش" التي نجحت في امتلاكها، أو في أفضل الحالات سوف تتزوج من صاحب المحل أو مشغل التريكو الذي تعمل به (عُرفيا) حتي تضمن بقاءها حية لفترة أطول.
سوف يعتبر كثير من قراء هذا المقال أني أسرد وقائع فيلم من الأفلام المصرية الميلودرامية، ولكن إن لم نعترف أن واقعنا أصبح أكثر ميلودرامية من أفلام حسن الإمام، فسوف نكون أكثر تغفيلا من حكومتنا الموقرة التي لا تري أن التحرش بالمجتمع قادم.. قادم!
----------------------------------
يارب احفظ مصر من المهالك