فيلم عن التلصص على الذات وعلى الآخرين

فيلم عن التلصص على الذات وعلى الآخرين _45066657_nothing_personal400

أيرينا تعيش حياة قاسية متمزقة بعد أن فشلت في إقامة علاقة سوية مع الرجل

شحبت صورة السينما في روسيا وتضاءلت قيمتها كثيرا خلال الفترة الأخيرة. قد يكون مرجع ذلك إلى الارتفاع الكبير في تكاليف الإنتاج، وإحجام الدولة عن دعم السينما، على عكس ما كانت تفعل في الماضي، وانخفاض الإقبال في روسيا على مشاهدة الأفلام الروسية نتيجة طغيان الأفلام الأمريكية المبهرة.
ولكن يمكن القول إن فيلم "أمر غير شخصي" Nichego Lichnogo للمخرجة لاريسا ساديلوفا، نجح أخير في أن يفرض مجددا المدرسة الروسية في السينما، ويعيد تسليط الأضواء عليها بعد حصوله على عدد كبير من الجوائز في المهرجانات الدولية. وربما لم يكن ممكنا أن يظهر هذا الفيلم إلا بعد حصوله على دعم مالي مباشر من "الوكالة الفيدرالية للثقافة والإنتاج السينمائي"، وهي مؤسسة حكومية لدعم الأعمال الفنية المتميزة. فكرة التلصص

فيلم عن التلصص على الذات وعلى الآخرين _45066655_nothing_personal2031

الوحدة والعزلة والحاجة إلى الحب موضوع الفيلم

يذكرنا الفيلم في أجوائه العامة بأجواء الفيلم الألماني الذي اكتسب شهرة كبيرة "حياة الآخرين" من حيث تركيزه على فكرة "التلصص"، وكيف يجد "المتلصص" على الآخرين نفسه تدريجيا مشدودا إلى الشخصية التي يتلصص عليها، يتعاطف معها، ويخون بالتالي مهنته التي تتطلب أن يكون مجرد عين بدون أي حساسية خاصة.
بطلنا هو "زيمين"، رجل في منتصف العمر يعمل مخبرا خاصا في وكالة تقدم هذا النوع من الخدمات لمن يدفع الثمن. وهو يكلف بمراقبة امرأة تدعى ايرينا تعمل صيدلانية، فيقوم بتركيب كاميرات للمراقبة وأجهزة للتنصت داخل مسكنها، ويبدأ في مراقبتها من سيارة خاصة مجهزة بجهاز يشبه شاشة التليفزيون يمكنه من خلاله مشاهدتها داخل مسكنها.
وسرعان ما يكتشف أن أيرينا تعيش حياة قاسية متمزقة بعد أن فشلت في إقامة علاقة سوية مع الرجل، وأصبحت تعاني من نوبات تعكس ضيقها من كل شئ حولها، تعاني داخل مسكنها الصغير المكون من غرفة واحدة، من الوحدة والعزلة التي يقطعها بين حين وآخر، رنين الهاتف، فأمها توالي الاتصال معها تريد الاطمئنان عليها غير أن أيرينا تضيق بها وبما تراه تدخلا منها في حياتها الخاصة.
ومن خلال هذه العلاقة المشحونة بالتوتر يقول لنا الفيلم أيضا أن أحد أسباب الاضطراب النفسي الذي تعاني منه أيرينا يرجع إلى طفولتها وعلاقتها غير السوية بوالدتها. وفي الوقت نفسه، نرى كيف تقوم أيرينا، بين حين وآخر، بالتخلص من بعض ملابسها وقطع من أثاث مسكنها سواء بالبيع أو بالقائها بجوار القمامة.

فيلم عن التلصص على الذات وعلى الآخرين _45066658_nothing_personal4003

زيمين لا يتمكن من أن يحسم أمره

بعد مرور بعض الوقت لا يجد زيمين فيما تفعله أيرينا شيئا يستحق المراقبة والتسجيل، ويكتشف أنهم أخطأوا في إعطائه رقم المسكن المقصود، وأن المرأة التي يتعين عليه مراقبتها تقطن في المسكن المجاور، هنا يتعين عليه أن يقوم بتفكيك أدوات المراقبة في شقة أيرينا ويضعها في شقة المرأة الأخرى.
لكن زيمين، الذي يجد نفسه مشدودا بقوة إلى أيرينا، يبقي على إحدى الكاميرات داخل مسكنها لكي يبقي على "مراقبته" أو بالأحرى، تطلعه المشبوب بالعاطفة إليها بين حين وآخر، بل إنه يحمل معه جهاز المراقبة الصغير إلى مسكنه، لكي لا يفوت أي فرصة لرؤية ما تفعله أيرينا، رغم ما يؤدي إليه تصرفه هذا من إثارة غضب زوجته التي تعترض على اهتمامه الزائد بتلك المرأة. الاحتياج إلى الحب
المرأة الأخرى موضع الرقابة، شابة شقراء جميلة، ترتبط بعلاقة برجل أعمال متزوج يكبرها كثيرا ويتردد على مسكنها، ويستنتج زيمين أن سبب مراقبتها قد يكون عائدا إلى رغبة منافسي الرجل في ابتزازه.
لكن زيمين يتورط أكثر فأكثر مع أيرينا، فيتصل بها ذات يوم مدعيا أنه يرغب في شراء بعض قطع الأثاث، ويراها ويتحدث معها وجها لوجه ويكتشف كم هي رقيقة وضعيفة وفي حاجة إلى الدفء والحب، كما يكتشف أن اهتمامه الكبير بها يعود إلى إحساسه بأن حياته قد أصبحت جافة، خاوية، لكنه لا يستطيع في الوقت نفسه التخلي عن زوجته.

فيلم عن التلصص على الذات وعلى الآخرين _45066660_nothing_personal2032

زيمين يصبح ضحية لسلوكه الشخصي

هذا التمزق يحسمه زيمين بأن يتوجه إلى حيث تعمل أيرينا، ثم يعرض عليها أن تتناول معه طعام الغداء في مطعم قريب أثناء فترة الراحة.
وسرعان ما يحل اهتمام أيرينا محل دهشتها من هذا الرجل الغريب الذي يبدو أنه يبدي اهتماما حقيقيا بها، فتوافق على اللقاء، وبعد ذلك، تتطور العلاقة بينهما على استحياء شديد دون ان يطلعها هو أنه متزوج خشية أن يفقدها، وتتغير حياة أيرينا وتنقلب من النقيض إلى النقيض، فتبدأ في الاهتمام بنفسها، وتتحسن حالتها الصحية والنفسية، وتصبح أكثر إشراقا وإقبالا على الحياة.
لكن زيمين لا يتمكن من أن يحسم أمره بعد.. وينتهي الفيلم وقد غرق أكثر فأكثر في المأزق الذي صنعه بنفسه وأصبح أسيرا له، متمزقا بين زوجته التي لا يمكنه التخلي عنها، وأيرينا التي لا يمكنه تحطيمها إذا هجرها. بساطة التناول
هذه الدراما البسيطة تتحول على يدي المخرجة الموهوبة ساديلوفا إلى جوهرة حقيقية: في بساطة التناول، والأسلوب المدهش في التعامل مع المكان، مع الصورة الشاحبة الضبابية التي تغلف المشاهد الخارجية، والكلاسيكية في بناء المشاهد الداخلية، والأداء المذهل للممثلة الرئيسية الرائعة ناتاليا كوتشتوفا، والممثل الرئيسي فاليري بارينوف، وهو أداء يخفي أكثر مما يكشف، ويقترب دون ضجيج، ويعتمد على التعبير بالإشارة والصمت والنظرة والانفعال الداخلي الذي تفضحه تعبيرات الوجه في اللقطات القريبة أكثر مما يعبر عنه بالحركة المباشرة.

فيلم عن التلصص على الذات وعلى الآخرين _45066659_nothing_personal2034

لحظات الانتظار تطول بلا أمل

هذا الفيلم البديع رغم اهتمامه بأن يطلعنا على ما وقع من تحول في طبيعة المجتمع الروسي (وجود وكالات خاصة للتجسس على الأفراد، والتنافس الشرس بين رجال الأعمال، وتراجع قيمة الإنسان الفرد الذي ينتمي للطبقة الوسطى (بطلتنا نموذجا).
إلا أن موضوعه الحقيقي يتعلق بالمشاعر الإنسانية: كيف يكتشف المرء بعد ان تجاوز منتصف العمر أنه لم يعش حياة حقيقية، وكيف يتطلع إلى علاقة مستحيلة مع امرأة لاتزال تمني نفسها بالنجاح بعد فشل علاقاتها السابقة مع الرجال، بل وكيف يمكن أن يستمر هذا الرجل في ممارسة عمله الغريب دون أدنى شعور بالذنب حتى بعد انكشاف أن ما يفعله يتناقض تماما مع القناعات الأخلاقية العامة بل ومع مشاعره الشخصية إزاء من يراقبه.
الفيلم ينتهي حقا وزيمين يسير بسيارته وسط الأمطار الغزيرة في تلك البلدة الصغيرة، دون أن نعرف ماذا سيفعل بعد ذلك، هل سيتمكن من الخروج من أزمته الشخصية ثم يتخلى عن تلك المهنة التي لم تعد تتناسب مع تفتح مشاعره الجديدة تجاه المرأة؟
هناك الكثير من الإيحاءات حول التغير الحتمي في مسار الشخصية. ولكن الملفت أيضا أن الفيلم في أجوائه العامة، يكاد يعيدنا على نحو ما، إلى أجواء العهد السوفيتيي، أجواء التجسس على حياة الآخرين، خاصة وأن زيمين ورئيسه في العمل، كانا ينتميان في الماضي إلى جهاز الأمن السوفيتي (الكي جي بي).
وهنا قد يرى البعض أن الفيلم يعكس استمرارا ولو بطريقة مختلفة، للتدخل الفظ في حياة الآخرين واقتحام أدق أسرارهم دون تعرض للمحاسبة، لكن الحقيقة أن اللعبة التي تستدرجنا إليها المخرجة- المؤلفة ساديلوفا هي لعبة مزدوجة تشمل اكتشاف الذات ولو عن طريق التلصص على الآخرين. أما ما قد ينتج عن ذلك، سواء من مراجعة ما يفعله المرء في حياته، أو تدمير ذاته والآخرين، فهو خيار مفتوح بالطبع!

شكرا لمروركم الكريم
اجدد التحيه
والمحبه
اليكم

فيلم عن التلصص على الذات وعلى الآخرين 2f11114cae

» هل تجيد الحكم على الآخرين ؟
» التسلق على أكتاف الآخرين
» ثلاث طرق أساسية لبناء الألفة والتوافق مع الآخرين
» البحث عن الذات
» ...........الذات والاخرين...........