يجيب على هذه الفتوى الدكتور عبدالله سمك: الإْتْيَانُ بِالْيَمِينِ الْغَمُوسِ حَرَامٌ، وَمِنَ الْكَبَائِرِ بِلاَ خِلاَفٍ ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجُرْأَةِ الْعَظِيمَةِ عَلَى اللَّهِ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي ذَمِّ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَبَيَانِ أَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ وَالتَّرْهِيبِ مِنَ الإِْقْدَامِ عَلَيْهَا.
مِنْهَا: مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ حَلَفَ عَلَى مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقِّهِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ قَال عَبْدُ اللَّهِ: ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} إِلَى آخِرِ الآْيَةِ .
وهل لها كفارة أم لا ؟
فِي الْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى تَمَامِ الْغَمُوسِ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ :
الرَّأْيُ الأْوَّل : أَنَّهَا لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهَا سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَلَى مَاضٍ أَمْ حَاضِرٍ، وَكُل مَا يَجِبُ إِنَّمَا هُوَ التَّوْبَةُ، وَرَدُّ الْحُقُوقِ إِلَى أَهْلِهَا إِنْ كَانَ هُنَاكَ حُقُوقٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ بِمَا يَأْتِي :
أَوَّلاً : قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآْخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
ثَانِيًا : مَا رَوَاهُ الأْشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ .
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِالآْيَةِ وَالْحَدِيثَيْنِ وَمَا مَعْنَاهُمَا : أَنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ أَثْبَتَتْ أَنَّ حُكْمَ الْغَمُوسِ الْعَذَابُ فِي الآْخِرَةِ، فَمَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فَقَدْ زَادَ عَلَى النُّصُوصِ .
ثَالِثًا : قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ
كَفَّارَةٌ : الشِّرْكُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَل، وَقَتْل النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَبَهْتُ مُؤْمِنٍ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالاً بِغَيْرِ حَقٍّ .
الرَّأْيُ الثَّانِي: أَنَّ فِيهَا الْكَفَّارَةَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَيُلاَحَظُ أَنَّهُمْ فِي تَعْرِيفِ الْغَمُوسِ خَصُّوهَا بِالْمَاضِي، لَكِنْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ إِيجَابَ الْكَفَّارَةِ فِي الْحَلِفِ عَلَى الْمَاضِي يَسْتَلْزِمُ إِيجَابَهَا فِي الْحَلِفِ عَلَى الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَل؛ لأِ نهُمْ قَالُوا: إِنَّ كُل مَا عَدَا اللَّغْوَ مَعْقُودٌ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْغَمُوسِ بِأَنَّهَا مَكْسُوبَةٌ مَعْقُودَةٌ، إِذِ الْكَسْبُ فِعْل الْقَلْبِ، وَالْعَقْدُ: الْعَزْمُ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ فَاعِلٌ بِقَلْبِهِ وَعَازِمٌ وَمُصَمِّمٌ، فَهُوَ مُؤَاخَذٌ. وَقَدْ أَجْمَل اللَّهُ عَزَّ وَجَل الْمُؤَاخَذَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَقَال: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وَفَصَّلَهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، فَقَال: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ...}.
عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ أَحَقُّ بِالتَّكْفِيرِ مِنْ سَائِرِ الأْيْمَانِ الْمَعْقُودَةِ؛ لأَِنَّ ظَاهِرَ الآْيَتَيْنِ، يَنْطَبِقُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل جَعَل الْمُؤَاخَذَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى الْكَسْبِ بِالْقَلْبِ، وَفِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ عَلَى تَعْقِيدِ الأْيْمَانِ وَإِرَادَتِهَا، وَهَذَا مُنْطَبِقٌ أَعْظَمَ انْطِبَاقٍ عَلَى الْيَمِينِ الْغَمُوسِ؛ لأِنَّهَا حَانِثَةٌ مِنْ حِينِ إِرَادَتِهَا وَالنُّطْقِ بِهَا، فَالْمُؤَاخَذَةُ مُقَارِنَةٌ لَهَا، بِخِلاَفِ سَائِرِ الأَْيْمَانِ الْمَعْقُودَةِ، فَإِنَّهُ لاَ مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهَا إِلاَّ عِنْدَ الْحِنْثِ فِيهَا، فَهِيَ مُحْتَاجَةٌ فِي تَطْبِيقِ الآْيَتَيْنِ عَلَيْهَا إِلَى تَقْدِيرٍ، بِأَنْ يُقَال: إِنَّ الْمَعْنَى: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِالْحِنْثِ فِيمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ، وَبِالْحِنْثِ فِي أَيْمَانِكُمُ الْمَعْقُودَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} مَعْنَاهُ: إِذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ.
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: التَّفْصِيل، وَقَدْ أَوْضَحَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِنَاءً عَلَى تَوَسُّعِهِمْ فِي مَعْنَاهَا، فَقَالُوا: مَنْ حَلَفَ عَلَى مَا هُوَ مُتَرَدِّدٌ فِيهِ أَوْ مُعْتَقِدٌ خِلاَفَهُ فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مَاضِيًا، سَوَاءٌ أَكَانَ مُوَافِقًا لِلْوَاقِعِ أَمْ مُخَالِفًا، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إِنْ كَانَ حَاضِرًا أَوْ مُسْتَقْبَلاً وَكَانَ فِي الْحَالَيْنِ مُخَالِفًا لِلْوَاقِعِ.
والله أعلى وأعلم