يجيب على هذه الفتوى الدكتور عبد الله سمك : المسافر إذا صحّ سفره يظلّ على حكم السّفر ، ولا يتغيّر هذا الحكم إلاّ أن ينوي الإقامة ، أو يدخل وطنه ، وحينئذ تزول حالة السّفر ، ويصبح مقيماً تنطبق عليه أحكام المقيم بشرائط منها :
نيّة الإقامة أمر لا بدّ منه عند الحنفيّة ، حتّى لو دخل مصراً ومكث فيه شهراً أو أكثر لانتظار قافلة ، أو لحاجة أخرى يقول : أخرج اليوم أو غداً ، ولم ينو الإقامة ، فإنّه لا يصير مقيماً ، وذلك لإجماع الصّحابة - رضي الله عنهم .
فإنّه روي عن سعد بن أبي وقّاص - رضي الله عنه - أنّه : أقام بقرية من قرى نيسابور شهرين وكان يقصر الصّلاة .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما - : أنّه أقام بأذربيجان شهراً وكان يقصر الصّلاة .
وعن علقمة : أنّه أقام بخوارزم سنتين وكان يقصر .
وروي عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أنّه قال : « غزوت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح ، فأقام بمكّة ثماني عشرة ليلةً ، لا يصلّي إلاّ ركعتين ، ويقول : يا أهل البلد : صلّوا أربعاً فإنّا قوم سفر » .
أمّا مدّة الإقامة المعتبرة :
أ- فأقلّها- عند الأحناف - خمسة عشرة يوماً ؛ لما روي عن ابن عبّاس وابن عمر رضي الله عنهم - أنّهما قالا : إذا دخلت بلدةً وأنت مسافر وفي عزمك أن تقيم بها خمسة عشر يوماً فأكمل الصّلاة ، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصر ، قال الكاسانيّ : وهذا باب لا يوصل إليه بالاجتهاد ؛ لأنّه من جملة المقادير ، ولا يظنّ بهما التّكلّم جزافاً ، فالظّاهر أنّهما قالاه سماعاً من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
ب- وعند المالكيّة: لا بدّ من النّيّة ، وأقلّ مدّة الإقامة أربعة أيّام صحاح مع وجوب عشرين صلاةً في مدّة الإقامة ، ولا يحتسب من الأيّام يوم الدّخول إن دخل بعد طلوع الفجر ، ولا يوم الخروج إن خرج في أثنائه .
ولا بدّ من اجتماع الأمرين : الأربعة الأيّام والعشرين صلاةً .
واعتبر سحنون : العشرين صلاةً فقط . ثمّ إنّ نيّة الإقامة إمّا أن تكون في ابتداء السّير ، وإمّا أن تكون في أثنائه ، فإن كانت في ابتداء السّير ، وكانت المسافة بين النّيّة وبين محلّ الإقامة مسافة قصر ، قصر الصّلاة حتّى يدخل محلّ الإقامة بالفعل ، وإلاّ أتمّ من حين النّيّة ، أمّا إن كانت النّيّة في أثناء السّفر فإنّه يقصر حتّى يدخل محلّ الإقامة بالفعل ، ولو كانت المسافة بينهما دون مسافة القصر على المعتمد ، ويستثنى من نيّة الإقامة نيّة العسكر بمحلّ خوف ، فإنّها لا تقطع حكم السّفر .
وإذا أقام بمحلّ في أثناء سفره دون أن ينوي الإقامة به ، فإنّ إقامته به لا تمنع القصر ولو أقام مدّةً طويلةً إلاّ أنّه إذا علم أنّه سيقيم أربعة أيّام في مكان عادةً ، فإنّ ذلك يقطع حكم السّفر ولو لم ينو الإقامة ؛ لأنّ العلم بالإقامة كالنّيّة ، بخلاف الشّكّ فإنّه لا يقطع حكم السّفر.
ج - ويقول الشّافعيّة : لو نوى المسافر المستقلّ ، ولو محاربًا إقامة أربعة أيّام تامّةً بلياليها ، أو نوى الإقامة وأطلق بموضع عينه ، انقطع سفره بوصوله ذلك الموضع سواء أكان مقصده أم في طريقه ، أو نوى بموضع وصل إليه إقامة أربعة أيّام انقطع سفره بالنّيّة مع مكثه .
ولو أقام أربعة أيّام بلا نيّة انقطع سفره بتمامها ؛ لأنّ اللّه تعالى أباح القصر بشرط الضّرب في الأرض ، والمقيم والعازم على الإقامة غير ضارب في الأرض .
والسّنّة بيّنت أنّ ما دون الأربع لا يقطع السّفر ، ففي الصّحيحين : « يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً » ، وكان يحرم على المهاجرين الإقامة بمكّة ومساكنة الكفّار ، فالتّرخّص في الثّلاث يدلّ على بقاء حكم السّفر ، بخلاف الأربعة ، وألحق بإقامة الأربعة : نيّة إقامتها .
ولا يحسب من الأربعة يوما دخوله وخروجه إذا دخل نهاراً على الصّحيح ، والثّاني يحسبان بالتّلفيق ، فلو دخل زوال السّبت ليخرج زوال الأربعاء أتمّ ، وقبله قصر ، فإن دخل ليلاً لم تحسب بقيّة اللّيلة ويحسب الغد .
د - وعند الحنابلة : لو نوى إقامة أكثر من عشرين صلاةً أتمّ لحديث جابر وابن عبّاس - رضي الله عنهم - « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قدم مكّة صبيحة رابعة ذي الحجّة فأقام بها الرّابع والخامس والسّادس والسّابع ، وصلّى الصّبح في اليوم الثّاني ، ثمّ خرج إلى منًى ، وكان يقصر الصّلاة في هذه الأيّام ، وقد عزم على إقامتها » .
ولو نوى المسافر إقامةً مطلقةً بأن لم يحدّها بزمن معيّن في بلدة أتمّ ؛ لزوال السّفر المبيح للقصر بنيّة الإقامة ، ولو شكّ في نيّته ، هل نوى إقامة ما يمنع القصر أو لا ؟ أتمّ ؛ لأنّه الأصل .
وإن أقام المسافر لقضاء حاجة يرجو نجاحها أو جهاد عدوّ بلا نيّة إقامة تقطع حكم السّفر ، ولا يعلم قضاء الحاجة قبل المدّة ولو ظنّاً ، أو حبس ظلماً ، أو حبسه مطر قصر أبداً ؛ لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصّلاة » .