فى انتظار نزع فتيل الأزمة المفتعلة بين القضاة والمحامين، التى أخذت أكبر من حجمها، وأكثر من وقتها، وغابت عنها المعالجة الهادئة، حيث بادر كل طرف بتبرير موقفه، وإلقاء اللوم على الطرف الآخر.. وبين كل هذه الأصوات، تناسى الجميع الرابط بين الطائفتين، وأن الأصل لهما واحد.. فكان أن استطلعنا آراء مستشارين سابقين امتهنوا المحاماة، ليؤكدوا أن العلاقة بين القضاة والمحامين هى علاقة تكامل متبادل للأدوار لا يصح أبدًا أن تكون محل تناحر وصراع لا يليق بجناحى العدالة!
فى هذا التحقيق يقدمون رؤيتهم من واقع خبراتهم فى كلا المجالين، ويروون تجربتهم، وينفون أى مشاعر سلبية أو تأثير إيجابى أو سلبى بانتقالهم من منصة القضاء إلى قاعة الدفاع!
المحامى د. «شوقى السيد» - عضو اللجنة الدستورية بمجلس الشورى والمستشار السابق- قال إن المشكلة ترجع إلى سوء تصرف وسوء فهم من جانب الطرفين لأنهم غير مقتنعين بأنهم شركاء فى عمل واحد، وهو السلطة القضائية وتحقيق العدالة، وأن دور كل منهم مكمل للآخر، لكن ما يحدث دائمًا فى أجيال الشباب الذين تنقصهم الخبرة وحسن التصرف أنهم يأخذون الأمور من جانب شكلى
فرجال النيابة بعد فترة من العمل تصبغ شخصيتهم بشكل معين نتيجة الإحساس بالسلطة فى الأمر والنهى والحكم بالحبس وهو ما يتسبب فى ضيق الطرف الآخر.
وتابع: إن المحامى هو الآخر لابد أن يقدر أن رجل القضاء يتعامل مع خصومه بحيادية ولا يطمع أن تكون المعاملة له أفضل على حساب الآخرين.
وأضاف أن مسئولية نقابة المحامين فى مساءلة الأعضاء هى مسئولية دستورية، وأن لعبة السياسة لابد أن تخرج من النقابة حتى تتفرغ لخدمة أعضائها.
«السيد» أضاف قائلاً: ما حدث فى طنطا كان يمكن أن ينتهى على باب النيابة الجزئية وعدم تصعيده إلا أن التراكمات خلال السنوات الماضية هى التى أدت إلى وجود احتقان، وأن التعامل مع هذه الملفات يجب أن يتم بعيدًا عن أى تعصب أو تهور.
واقترح «السيد» أن يتم تكوين مجلس للحكماء داخل نقابة المحامين تكون مسئوليته تأهيل شباب المحامين للتعامل داخل المحاكم.
«بهاء الدين أبو شقة» والذى عمل بالنيابة والقضاء لمدة 16 عاماً حتى وصل إلى رئيس محكمة ثم استقال وتفرغ لمهنة المحاماة التى وصف علاقته بها بأنها حالة عشق.. «أبو شقة» حاول تقليص الفجوة فى نظر البعض بالقول: «مهنة المحاماه رسالة سامية لا تقل قدسيتها وأهدافها عن الدور الذى يؤديه رجال القضاء والنيابة، وأن المنطق الذى يتحدث به بعض المحامين من أن رجال النيابة يتعاملون معهم بنوع من التعالى وبنظرة دونية هو كلام غير مقبول، لأن المحامى الذى لم يعين فى النيابة ويعمل فى حقل المحاماة لابد أن يفخر بمهنته، ولا يجب أن يشكل ذلك الأمر أى نوع من الضيق النفسى لأن دور المحامى يفوق دور المحقق حيث تتعلق المحاماة بالإبداع فى تفنيد الأدلة والوصول إلى صور أخرى غير صورة دليل الاتهام».
المشكلة بين جناحى العدالة من وجهة نظر «أبو شقة» ترجع إلى المتاعب اليومية ما بين المحامى أثناء ممارسة عمله وبين وكيل النيابة، وأن هذه المسائل ليست على هذه الدرجة من الجسامة بحيث تشكل نقطة سوداء بين الطرفين.
وأشار إلى أن شيوخ المهنة من الطرفين يجب أن يتدخلوا للوصول إلى صيغة ثابتة للطرفين ويتم عرضها على النائب العام وأن يقبلها ويلتزم بها الجميع.
وأضاف «أبو شقة»: إن المسئولية على عاتق وكيل النيابة ورجل القضاء تمثل ثقلا عنيفا على الضمير نظرًا لصعوبة إثبات البراءة أو الإدانة فى بعض القضايا، لذا فإن الجميع من محامين ومتقاضين لابد أن يهيأوا جميعًا لقبول أحكام القضاء حتى لو كانت فى غير صالحهم وأن عليهم قبول فكرة أن القانون به ضمانات عديدة للطعن عليه أو إعادة النظر فيه فى مرحلة أخرى.
المستشار «فتحى رجب» - وكيل اللجنة التشريعية فى مجلس الشورى - استهل حديثه عن الأزمة بقوله: «ربنا يستر» وأضاف: ما يحدث من تصعيد سواء من جانب المحامين أو من جانب القضاة سوف يؤدى إلى كارثة!
«رجب» دعا الطرفين إلى النظر إلى الأمر من الناحية القانونية بطريقة هادئة وعادلة بعيدًا عن التصعيد، وأشار إلى أن إصدار قانون البلطجة ضد القضاة ليس من سلطة مجلس القضاء الأعلى ولن يصدر بإرادة القضاة وإنما المسئول عن إصداره هو الجهات التشريعية وأن هذا الإعلان عن هذا القانون فى هذا الوقت لا يخرج عن كونه نوعا من الضغط النفسى!
وتابع بقوله: نحن فى حاجة إلى قانون لمكافحة البلطجة بصفة عامة وليس لمكافحة البلطجة ضد فئة معينة، فما يقوم به المحامون من منع المحاكم من ممارسة عملها فى نظر الدعاوى والقضايا المختلفة من الجرائم الخطيرة جداً والتى يجب على المحامين التوقف عنها!
«رجب» الذى عمل فى سلك القضاء من 1956 وحتى 1959 والتحق بعدها بالعمل بالمحاماة وعضوية مجلس الشورى يرى أن منظومة تحقيق العدالة فى مصر من قضاة ووكلاء نيابة ومحامين ومتقاضين ضحايا العمل فى ظروف صعبة، وأضاف: إن العمل فى هذا المجال عمل مضنى وقاتل خاصة فى ظل أجواء المحاكم المصرية التى وصلت إلى مرحلة بالغة السوء حيث توجد محاكم فى مصر داخل شقق وفى أماكن غير لائقة، وهو ما يجعل أعصاب العاملين فى هذا المجال مشدودة بشكل دائم وهو ما يؤدى إلى حدوث مشادات سواء بين المحامين وبعضهم البعض، أو بين المحامين ورجال القضاء لكن هذه القضايا تنتهى دون تصعيد فى كثير من الأحيان، لخبرة الطرفين وعدد قليل من هذه الاحتكاكات ينتهى بمشكلة مثل طلب رد المحكمة أو دعوى مخاصمة أو اشتباك لفظى أو حتى اشتباك بالأيدى، لكن لحسن الحظ أن هذه القضايا لا يتم التدخل فيها من جانب أطراف أخرى هى التى أدت إلى تصعيد الخلافات فى أزمة اعتداء محامى طنطا على مدير النيابة وجعلت من هذه الحادثة أزمة بين القضاة والمحامين.
ووكيل اللجنة التشريعية أضاف قائلاً: أثناء نظر قضية عماد الجلدة والمسماة برشوة البترول كان يوجد بقاعة المحكمة 5 آلاف فرد فى الوقت الذى لا تتسع فيه المحكمة إلا لـ50 فقط، وهو ما أدى إلى الشد العصبى وما حدث من اعتداء على المنصة فى أعقاب الحكم بالإدانة، وهو ما يؤكد ضرورة توفير الظروف الملائمة لكل أطراف العدالة حتى يتفرغ كل طرف منهم لأداء عمله فقط.
وأشار رجب إلى أن حل هذه الأزمة يكمن فى إعادة النظر فى المنظومة بالكامل سواء المتعلقة بالمحامين مثل إنشاء معهد للمحاماة لإعداد وتخريج المحامين، لأن برامج كليات الحقوق وحدها لا تكفى لتخريج محامين قادرين على التعامل داخل المحاكم، وفى نفس الوقت تفعيل مشروع معهد القضاة لتدريب وتأهيل وكلاء النيابة والاهتمام بزيادة أعداد القضاة حيث إن المنظومة الحالية تحتاج إلى خمسة أضعاف العدد الموجود.
وأضاف: إنه من غير المتصور وجود وكيل نيابة أو محام عمره- 21 عاماً- ومن غير المتصور أيضاً وجود 800 قضية فى الجلسة الواحدة فى إحدى المحاكم فمهما كانت خبرة القاضى وإمكاناته فهو لا يستطيع أن يفصل فى هذا الكم من القضايا، وكذلك المحامى الذى يظل منتظرًا داخل المحكمة من الثامنة صباحًا وحتى العاشرة مساءً حتى يحين موعد نظر قضيته.
مسئولية إصلاح هذه المنظومة - كما يراها «رجب» - فى يد وزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى والمجلس الخاص بالنسبة لمجلس الدولة، وكذلك مجلس نقابة المحامين الذى يجب أن يتفرغ لخدمة المحامين خاصة صغار السن بدلا من الانشغال بالعمل السياسى.
الكاتب الكبير محمد صفاء عامر كان فى الأساس مستشارا سابقا وأيضا عمل بالمحاماة فترة بعد تركه العمل فى القضاء، والذى أرجع سبب المشكلة إلى وجود رواسب نفسية بين شباب المحامين وبين شباب النيابة العامة، وأن هذه الرواسب هى التى أدت إلى تصعيد هذه الأزمة، بالإضافة إلى المزايدات التى قامت بها نقابة المحامين نظرا لأسباب انتخابية، وهو ما أدى إلى اشتعال الأزمة.
«عامر» قال: المؤسف فى الموضوع أيضا هو وجود تعصب فئوى لدى القضاة بمعنى أن يتم تشديد العقوبة على المحامين لا لشىء إلا أن الطرف المعتدى عليه ينتمى إلى مهنة القضاء.
وتابع: إن التقاليد والاحترام المتبادل بين طرفى العدالة سواء المحامين أو القضاة الذى كان سائدا فى السابق كان يجبر كل طرف منهما على احتواء أى أزمة فردية مثل الأزمة التى حدثت فى طنطا، وأشار عامر إلى أن فترة عمله فى القضاء هى الأحب إلى قلبه، حيث لم يستطع التأقلم مع عمله كمحام فاتجه للتأليف.
«عامر» حذر من استمرار التصعيد على هذا النحو الذى يمكن أن يؤدى إلى كوارث خصوصا مع عدم إحساس البعض من طرفى الأزمة بالمسئولية الكبيرة عن خلق هذه الفوضى، وقال: لابد من تقنين مسألة وقفة المحامين على أبواب رجال النيابة لأن المحامى فى النهاية ملتزم بأشغال تتعلق بمصير موكليه بالإضافة إلى أن بعض القضاة لا يلتزمون بمواعيد الجلسات لعدة ساعات بدون أسباب منطقية، وهو ما يدفع المحامين إلى الغضب والاحتقان!
المستشار «على النمر» قال إنه عمل بالمحاماة لمدة أربع سنوات بعد تخرجه فى كلية الحقوق مباشرة، وقبل التحاقه بالعمل فى النيابة العامة ويرى «النمر» أن الشباب فى كلا الطرفين سواء من وكلاء النيابة أو من المحامين فى الأجيال الجديدة قد يكونون متسرعين أو يتسمون ببعض الشدة، بخلاف الأجيال السابقة.
وتابع بقوله: المحامى خاصة من أجيال الشباب يريد أن ينهى مصلحته دون النظر لظروف رجل النيابة الذى من الطبيعى أن يكون مشغولا فى تحقيق أو إعداد مذكرة معينة، فهو لا يستطيع أن يستقبل الجميع فى مكتبه طوال وجوده فى العمل.
«النمر» روى تجربة شخصية له أثناء نظر إحدى القضايا التى قام فيها محام بالتعدى بالضرب على قاض داخل المحكمة، وتم الحكم عليه بالحبس لمدة 6 أشهر، وقام هو بنظر القضية فى الاستئناف.
وأضاف: حضر مع هذا المحامى 5 محامين وليس خمسة آلاف محام كما حدث فى قضية محامى طنطا وأنه وقتها طلب من المحامين الخمسة تفويض واحد منهم لتولى مهمة الدفاع فقاموا بتفويض أحمد الخواجة - نقيب المحامين الأسبق - فى ذلك الوقت بالدفاع عن المحامى بعدها أصدر الحكم بتخفيض عقوبة الحبس من ستة أشهر إلى شهر واحد، وهى الفترة التى قضاها المحامى فى الحبس الاحتياطى وتم الإفراج عن المحامى من سراى المحكمة فى استجابة لطلب الدفاع فى إشارة إلى الود الذى كان سائدا بين الطرفين على عكس ما يحدث حاليا من جانب شباب المحامين والنيابة من صراع!
«النمر» قام بتحميل الجيل القديم من المحامين جزءا من هذه الأزمة لتقصيرهم فى توجيه شباب المحامين، حيث أشار إلى أنه تعرض للوم من جانب أساتذة المحامين، حيث كان يعمل بمكتب أحدهم فى أثناء فترة عمله بالمحاماة وعندما رآه المحامى جالسا فى كافيتريا المحامين فى محكمة جنوب القاهرة منتظرا نظر قضيته قال له: «أنت غلطان لأن القاضى لا ينتظر أحدا وأنه لابد أن يحصل على الحكم من فم القاضى»!
وتابع «النمر»: إن هذه الأخلاقيات لابد أن يتعلمها الشباب من الطرفين لتلافى الاحتكاكات فيما بعد بين طرفى العدالة.
20 عاما قضاها «جميل سعيد» فى سلك القضاء، وما يقرب من 23 عاما فى المحاماة، لذلك يرى استحالة أن تكون هناك أزمة بين المحامين والقضاة، فالعلاقة بينهما قائمة على كل ود واحترام متبادل.
«جميل» أوضح استحالة أن تكون هناك أى رواسب نفسية، حيث إن الطبيعى أن يتم تداول الأماكن بين الطرفين، فكل منهما يجلس مكان الطرف الآخر، وأن هذا لا يمنع حدوث بعض التجاوزات الفردية التى لا يمكن وصفها بالعمومية، ولا يمكن اعتبارها أكثر من سحابة صيف ستمر دون تأثير على الود والاحترام المتبادل.
«سعيد» أضاف بقوله: المحامى لابد أن يقدر أن إرجاء أى رجل نيابة للقائه لابد أنه راجع إلى انشغاله فى أمور مهمة، ويجب عليه ألا يأخذها على محمل غير طبيعى.
وأشار إلى أنه لم يشعر بأى اختلاف فى أداء عمله سواء أثناء عمله بالقضاء أو خلال عمله بالمحاماة، فكلاهما يؤدى نفس الغرض فى خدمة العدالة!
د. محمود سامى قرنى قضى 21 عاما فى القضاء كانت هى الأحب إليه نظرا لعلاقة الاحترام التى تربط رجال القضاء بعضهم ببعض على عكس المحامين.
«قرنى» علق على ما جرى فى محكمة طنطا بقوله: ما حدث مجرد واقعة فردية لا يمكن تعميمها، فهناك نسبة ضئيلة جدا من كلا الطرفين خاصة من الشباب هم من يتأثرون بالكلام القائل بأن هناك أشياء نفسية تحكم العلاقة بينهما، أما الأجيال الكبيرة من شيوخ القضاة والمحامين فيربطهم الود والاحترام فى العمل.
وتابع «قرنى» أن مثل هذه الأمور واردة فى كل القطاعات وليس فى المحاكم وحدها.
وأشار إلى أن بعض الشباب من المحامين يتعرض للصدمة عندما يرى أن زميله فى الدفعة أصبح وكيل نيابة وأنه يطلب الإذن بالدخول لمقابلته لإنهاء مصلحة لأحد موكليه، وقد يكون مشكلة خاصة به شخصيا، لكن هذا الأمر من الممكن تداركه عن طريق تأهيل هؤلاء الشباب وإقناعهم بأهمية الرسالة التى يقومون بها.
«ناجى عبدالعزيز» المحامى حاليا والمستشار السابق قال: توجد بعض الأخطاء الشخصية، لكنها فى النهاية تسىء إلى جموع القضاة والمحامين.
وتابع: هذه الأزمة هى اختبار حقيقى لمدى تطبيق القانون بين أهله وأن المسألة تحتاج إلى بعض الضوابط لوضع ملامح العلاقة بين الطرفين، فمن جانب المحامين لابد من سن قانون للعمل بالمحاماة بعيدا عن قانون المحاماة الحالى، حيث تكون مهمته رقابة سلوك المحامين والتزامهم بالتقاليد، بالإضافة إلى شىء مهم جدا وهو شكل ومظهر المحامى فى المحكمة لأن بعض المحامين يذهبون إلى المحكمة بزى لا يليق بمهنتهم.
واستكمل: على الجانب الآخر لابد من الرقابة على رجال النيابة بشكل أكبر وأجدى فى مراعاة اللياقة وحسن استخدام السلطات.