قال تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون}... (النحل :90).
فالعدل هو الذى يكفل لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم كقاعدة ثابتة للتعامل، لا تميل مع الهوى، ولا تتأثر بالود والبغض ولا تتبدل مجاراة للصهر والنسب، والغنى والفقير، والقوة والضعف، إنما تمضى فى طريقها تكيل بمكيال واحد للجميع، وتزن بميزان واحد للجميع وبجوار العدل الإحسان يلطف من حدة العدل الصارم الجازم، ويدع الباب مفتوحاً لمن يريد أن يتسامح فى بعض حقه إيثاراً لود القلوب، وشفاءً لغل الصدور.
فلا يكون العدل من جانب الفرد فقط وإنما من جانب الجماعة أيضاً لتنهض بدورها فى إقامة العدل بين الناس على النحو الفريد الذى لم يقم إلا على يد هذه الجماعة، والعدل الذى تتعامل فيه مع الله مباشرة خالص من كل عاطفة أو هوى أو مصلحة بما فى ذلك ما يسمى مصلحة الجماعة أو الأمة أو الدولة. متجرداً من كل اعتبار آخر غير تقوى الله ومرضاته.
فقال تعالى: {يا آيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلوا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً}... (النساء : 135).
ويتضح من هذه الآية إنه نداء للذين آمنوا ليقيموا هذا العدل بصورته هذه.. و يعلم الله حقيقة المجاهدة الشاقة التى تتكلفها إقامة العدل على هذا النحو. وضعف النفس البشرية المعروف وعواطفها تجاه ذاتها وتجاه الأقارب وتجاه الوالدين وغير ذلك ويعلم أن التجرد من هذا كله يحتاج إلى جهاد شاق، جهاد للصعود إلى هذه القمة على سفوح ملساء، لا تتعلق فيها النفس بشئ إلا بحبل الله.
فإذا أردنا أن نتكلم عن العدل فلا نستطيع أن نتكلم عن أهل العدل وننسى أستاذهم ومعلمهم الذى ربَّاه الحق جل وعلا ليربى به الأمم والأجيال. وسوف نتناول بعض المواقف من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على عدله.
مواقف العدل فى حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم:
عن عائشة رضى الله عنها: أن قريش أهمهم شأن المرأة المخزومية التى سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أتشفع فى حد من حدود الله) ثم قام، فاختطب، ثم قال: [إنما أهلك الذين قبلكم إنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها] (رواه البخارى).
وأما عن عدله صلى الله عليه وسلم بين أزواجه (رضى الله عنهن):
عن أم سلمة أنها أتت بطعام فى صحفة أى إناء واسع لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فهّر أى حجر ففلقت به الصحفة، فجمع النبى صلى الله عليه وسلم بين فلقتى الصفحة ويقول: (كلوا غارت أمكم) مرتين ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صفحة عائشة فبعث بها إلى أم سلمة وأعطى صفحة أم سلمة عائشة. (رواه النسائى).
وأما عن عدله صلى الله عليه وسلم مع المشركين:
فقبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بعامين أرسل أسامة بن زيد (رضى الله عنهما) للقاء بعض المشركين الذين يناوئون الإسلام والمسلمين وكانت تلك أول إمارة يتولاها أسامة ولقد أحرز فى مهمته النجاح والفوز وسبقته أنباء فوزه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرح بها وسر.
وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً من المسلمين إلى قوم من المشركين وإنهم إلتقوا فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله وإن رجلاً من المسلمين قصد غفلته قال وكنا نحدث أنه أسامة بن زيد فلما رفع عليه السيف قال لا إله إلا الله فقتله فجاء البشير إلى النبى صلى الله عليه وسلم فسأله فأخبره حتى أخبره خبر الرجل كيف صنع فدعاه فسأله فقال لم قتلته قال يا رسول الله أوجع فى المسلمين وقتل فلاناً وفلاناً وسمى له نفراً وإنى حملت عليه فلما رأى السيف قال لا إله إلا الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أقتلته)؟ قال: نعم، قال: (فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟) قال: يا رسول الله، استغفر لى (رواه مسلم).
ومن مواقف عدله صلى الله عليه وسلم إنه يقدم نفسه للقصاص فبينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدل صفوف جيشه، مر بسواد بن غزية، وهو خارج عن الصف فطعن فى بطنه بعود كان فى يده قائلاً: (استوا يا سواد)، وهنا قال سواد: أوجعتنى يا رسول الله، ولقد بعثك الله بالحق والعدل.
ثم طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعطى القصاص من نفسه قائلاً: أقدنى، فلم يتردد صلى الله عليه وسلم وكشف عن بطنه صلى الله عليه وسلم ليقتص منه سواد قائلاً له (استقد) ولكن سواد بدلاً من أن يطعن بطن الرسول قصاصاً، أخذ يقبلها فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما حملك على هذا يا سواد؟) قال: يا رسول الله حضر ما ترى - يعنى القتال - فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدى جلدك، فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بخير.
وهكذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعدل مع عامة الناس وخاصتهم حتى الوالد مع ولده فقد أوصى بتقوى الله والعدل بين الأولاد فى العطاء وأمر الزوج بالعدل بين الزوجات، فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس رحمة وعدل بل خير خلق الله أجمعين.