من الآيات الجامعة المانعة في القرآن الكريم، قوله سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.... (الحديد:25).
فقد بينت هذه الآية الكريمة، أن إرسال الرسل جميعاً، وإيتاءهم البينات، وإنزال الكتاب والميزان، إنما كان لأجل مقصد واحد هو: إقامة القسط بين الناس.
فما هي هذه الأمور التي جُعلت سبباً لتحقيق هذا المقصد الأساس في حياة الأمم؟ هذا ما نسعى لتجليته في هذه السطور، وذلك على ضوء العناصر التالية:
البينات
المراد بـ (البينات) التي أُرسل بها الرسل: المعجزات البينة، والشرائع الظاهرة، والحجج الباهرات، والدلائل القاطعات على أن ما يدعون إليه هو مراد الله.
الكتاب والميزان
والمراد بـ (الكتاب) في الآية، جنس الكتاب، فيدخل فيه كتاب كل رسول. والمراد بـ (الميزان): العدل، والعدل يسمى ميزاناً؛ لأن الميزان آلة الإنصاف والعدل. والمراد هنا: العدل في الأقوال والأفعال. والدين الذي جاءت به الرسل، كله عدل وقسط في الأوامر والنواهي وفي معاملات الخلق.
و(الميزان) تبينه كُتب الرسل، وذكره بخصوصه للاهتمام بأمره؛ لأنه وسيلة انتظام أمور البشر، كقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}.. (النساء:105). قال ابن زيد: (الميزان): ما يعمل الناس ويتعاطون عليه في الدنيا من معايشهم التي يأخذون ويعطون، يأخذون بميزان، ويعطون بميزان، يعرف ما يأخذ وما يعطي.
و(الكتاب) فيه دين الناس الذي يعملون ويتركون. فالكتاب للآخرة، والميزان للدنيا. وتفسير (الميزان) بالعدل، قول ابن عباس رضي الله عنهما، وهو قول أكثر المفسرين.
ومعنى إنزال الميزان: إلهامه للخلق أن يعملوه ويعملوا به، وهو كقوله سبحانه: {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} (الرحمن:7)، فيكون إنزاله بمعنى: إنزال أسبابه وموجباته، والأمر بإعداده.
القيام بالقسط
و(القيام) في الآية: مجاز في صلاح الأحوال واستقامتها؛ لأنه سبب لتيسير العمل.
و(القسط): العدل في جميع الأمور، فهو أعم من (الميزان) المذكور؛ لاختصاصه بالعدل بين متنازعين، وأما (القسط) فهو إجراء أمور الناس على ما يقتضيه الحق، فهو عدل عام.
ويكون المراد بقوله سبحانه: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}: أمر الناس بالعدل في معاملاتهم؛ وطريق ذلك، إتباع الرسل فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا به، فإن الذي جاؤوا به هو الحق المبين.
ثم هنا ينبغي التنبيه على أمر يقع تجاوزه، رغم شدة وضوحه، وهو أن (القسط) لا ينحصر في الحكم بين المتخاصمين، وفي إعطاء الناس حقوقهم فحسب، بل هو مطلوب في كل شيء، وفي كل مجال، وعلى المستويات كافة.
فـ(القسط) يكون بين العبد وربه، وبين المسلم وأخيه، وبين المسلم وعدوه، وبين الحاكم والمحكوم، وبين الرئيس والمرؤوس، وبين الغني والفقير، وبين الضعيف والقوي.
قال الآلوسي: "القسط: لفظ جامع مشتمل على جميع ما ينبغي الاتصاف به معاشاً ومعاداً".
وأنزلنا الحديد
المراد بـ(إنزال الحديد): إنشاؤه وخَلْقه، وهو كقوله تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}... (الزمر:6). والمراد: جعلنا الحديد رادعاً لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه.
والمقصود من التعبير بـ(الإنزال)، لفت بصائر السامعين إلى الاعتبار بحكمة الله تعالى من خلق الحديد وإلهامهم صنعه، والتنبيه على أن ما فيه من نفع وبأس إنما أريد به أن يوضع بأسه حيث يستحق، ويوضع نفعه حيث يليق به، كتجهيز الجيوش لحماية الأوطان من أهل العدوان، وللادخار في البيوت لدفع ما يُخشى ضرره على الأرواح والممتلكات؛ لا لِتُجعل منافعه لمن لا يستحقها، مثل قطّاع الطرق، والثوار على أهل العدل.
والمراد بـ(المنافع)، أي: في خلق الحديد تدبير حياة الناس ومعاشهم، وما لا قوام لهم بدونه. والمتأمل في المعادن التي يستعملها الناس في نشاطاتهم كافة، يجد أن الحديد هو العنصر الأهم والأبرز والأكثر حاجة من غيره من المعادن.
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ
أي: ليظهر للناس أثر علم الله بمن ينصره، فأطلق فعل {ليعلم} على معنى ظهور أثر العلم. وقال السعدي : ليقيم تعالى سوق الامتحان بما أنزله من الكتاب والحديد، فيتبين من ينصره، وينصر رسله في حال الغيب.
هذا، ونصرُ الناس الله هو نصرهم دينه، وأما الله فغني عن النصر. ويدخل فيه نصر شرائع الرسول صلى الله عليه وسلم بعده والدفاع عنه. ويدخل فيه أيضاً نصر ولاة أمور المسلمين القائمين بالحق. ويدخل فيه أيضاً نصر المستضعفين من المؤمنين، فكل هذا مشمول بقوله سبحانه: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ}، وهو بمعنى قوله سبحانه: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}... (محمد:7).
ثم لما كانت النصرة قد تكون ظاهرة، كما يقع من منافق، أو ممن مراده المنافع في الدنيا، بيَّن تعالى أن الذي أراده النصرة بالغيب، ومعناه: أن تقع عن إخلاص بالقلب. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما بهذا الصدد، قوله: ينصرونه ولا يبصرونه.
لطائف الآية
اشتملت الآية الكريمة على جملة من اللطائف والفوائد، نذكر منها:
أولاً: أن الناس ثلاثة أصناف: صنف سابقون: وهم الذين يعامِلون الخلق بمقتضى الكتاب، فينصفون ولا ينتصفون، ويحترزون عن مواقع الشبهات.
وصنف مقتصدون: وهم الذين ينصفون وينتصفون، فلا بد لهم من الميزان. وصنف ظالمون: وهم الذين ينتصفون ولا ينصفون، ولابد لهم من الحديد والزجر.
وهذا التقسيم متوجِّه بقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}... (فاطر:32).
ثانياً: أن الإنسان، إما أن يكون في مقام النفس المطمئنة، فهو لا يسكن إلا إلى الله، ولا يعمل إلا بكتاب الله، كما قال: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ}... (الرعد:28).
وإما أن يكون في مقام النفس اللوامة، فلا بد له من الميزان في معرفة الأخلاق، حتى يحترز عن طرفي الإفراط والتفريط، ويبقى على الصراط المستقيم. وإما أن يكون في مقام النفس الأمَّارة، وهنا لا بد له من حديد المجاهدة.
ثالثاً: ذِكْرُ (الكتاب) في الآية إشارة إلى العمل بأحكام الشرع، المقتضية للعدل والإنصاف، وهو شأن العلماء. وذكر (الميزان) إشارة إلى حمل الناس على تلك الأحكام المبنية على العدل والإنصاف، وهو شأن الملوك. وذكر (الحديد) إشارة إلى أن الناس لو تمردوا لوجب أن يحملوا عليهما بالسيف.
وهذا يدل على أن مرتبة العلماء وهم أرباب الكتاب مقدمة على مرتبة الملوك الذين هم أرباب السيف.
رابعاً: في الآية دليل على أن الرسل متفقون في مقصود الشرع والرسالة، من حيث دعوتهم العباد إلى القيام بالقسط، الذي هو العدل.
خامساً: قرن تعالى في هذه الآية بين الكتاب والحديد؛ لأنه بهذين الأمرين ينصر الله دينه، ويُعلي كلمته، بالكتاب الذي فيه الحجة والبرهان، والسيف الناصر بإذن الله، يقول ابن تيمية : "قوام الدين بكتاب يهدي، وسيف ينصر"، وكلاهما قيامه بالعدل والقسط، الذي يستدل به على حكمة الباري وكماله، وكمال شريعته التي شرعها على ألسنة رسله.
أخيراً لا آخراً، فإن الآية أفادت أن مقصود الشرائع ومطلوبها: إقامة حياة القسط و(مجتمع العدل).