يجيب على هذه الفتوى الدكتور عبد الله سمك : أولا : حكم استخدام السبحة :السّبحة كما قال ابن منظورٍ هي الخرزات الّتي يعدّ بها المسبّح تسبيحه قال : وهي كلمة مولّدة ، وقد قال :المسبحة.
ولامانع شرعا من استخدامها ، وقد وردت في ذلك آثار ، ولم يصب من قال إنّ ذلك بدعة ، بل استحب البعض اتّخاذ السّبحة ، وزعم أنّها بدعة غير صحيحٍ ، إلاّ أن يحمل على تلك الكيفيّات الّتي اخترعها بعض السّفهاء ، ممّا يمحّضها للزّينة أو الرّياء أو اللّعب.
قال ابن علّان : وقد أفردت السّبحة بجزءٍ لطيفٍ سمّيته « إيقاد المصابيح لمشروعيّة اتّخاذ المسابيح » أوردت فيها ما يتعلّق بها من الأخبار والآثار والاختلاف في تفاضل الاشتغال بها أو بعقد الأصابع.
وحاصله أنّ العقد بالأنامل أفضل لا سيّما مع الأذكار بعد الصّلاة ، أمّا في الأعداد الكثيرة الّتي يلهي الاشتغال بعدّها عن التّوجّه للذّكر فالأفضل استعمال السّبحة ، ومما ورد في ذلك من الأحاديث:
عَنْ بُسَيْرَةَ وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ قَالَتْ : قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( عَلَيْكُنَّ بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ وَلَا تَغْفُلْنَ فَتُنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ وَاعْقِدْنَ بِالْأَنَامِلِ فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد .
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ( أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ وَبَيْنَ يَدَيْهَا نَوًى أَوْ حَصًى تُسَبِّحُ بِهِ ، فَقَالَ : أُخْبِرُكِ بِمَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكِ مِنْ هَذَا أَوْ أَفْضَلُ .سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي السَّمَاءِ ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَعَنْ صَفِيَّةَ قَالَتْ : ( دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ يَدَيَّ أَرْبَعَةُ آلَافِ نَوَاةٍ أُسَبِّحُ بِهَا ، فَقَالَ : لَقَدْ سَبَّحْت بِهَذَا أَلَا أُعَلِّمُك بِأَكْثَرَ مِمَّا سَبَّحْت بِهِ ؟ ، فَقَالَتْ عَلِّمْنِي فَقَالَ : قُولِي : سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ : ( رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْقِدُ التَّسْبِيحَ ) زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ " بِيَمِينِهِ " وَقَدْ عَلَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَنَامِلَ مَسْئُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ ، يَعْنِي أَنَّهُنَّ يَشْهَدْنَ بِذَلِكَ فَكَانَ عَقْدُهُنَّ بِالتَّسْبِيحِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ أَوْلَى مِنْ السُّبْحَةِ وَالْحَصَى وَالْحَدِيثَانِ الْآخَرَانِ يَدُلَّانِ عَلَى جَوَازِ عَدِّ التَّسْبِيحِ بِالنَّوَى وَالْحَصَى وَكَذَا بِالسُّبْحَةِ لِعَدَمِ الْفَارِقِ لِتَقْرِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَرْأَتَيْنِ عَلَى ذَلِكَ .
وَعَدَمُ إنْكَارِهِ وَالْإِرْشَادُ إلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ لَا يُنَافِي الْجَوَازَ . قَدْ وَرَدَتْ بِذَلِكَ آثَارٌ فَفِي جُزْءِ هِلَالِ الْحَفَّارِ مِنْ طَرِيقِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي صَفِيَّةَ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُوضَعُ لَهُ نِطْعٌ وَيُجَاءُ بِزِنْبِيلٍ فِيهِ حَصًى فَيُسَبِّحُ بِهِ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ ثُمَّ يَرْفَعُ فَإِذَا صَلَّى أَتَى بِهِ فَيُسَبِّحُ حَتَّى يُمْسِيَ وَأَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ قَالَ : حَدَّثَنَا عَفَّانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ : رَأَيْت أَبَا صَفِيَّةَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ خَازِنًا قَالَتْ : فَكَانَ يُسَبِّحُ بِالْحَصَى .
وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ حَكِيمِ بْنِ الدَّيْلَمِ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَ يُسَبِّحُ بِالْحَصَى وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا إسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ امْرَأَةٍ خَدَمَتْهُ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهَا كَانَتْ تُسَبِّحُ بِخَيْطٍ مَعْقُودٍ فِيهِ .
وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ خَيْطٌ فِيهِ أَلْفُ عُقْدَةٍ فَلَا يَنَامُ حَتَّى يُسَبِّحَ .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ : كَانَ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ نَوًى مِنْ الْعَجْوَةِ فِي كِيسٍ فَكَانَ إذَا صَلَّى الْغَدَاةَ أَخْرَجَهَا وَاحِدَةً وَاحِدَةً يُسَبِّحُ بِهِنَّ حَتَّى يُنْفِذَهُنَّ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يُسَبِّحُ بِالنَّوَى الْمَجْمُوعِ .
وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ طَرِيقِ زَيْنَبَ بِنْتِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أُمِّ الْحَسَنِ بِنْتِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهَا عَنْ جَدِّهَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا { نِعْمَ الْمُذَكِّرُ السُّبْحَةُ } وَقَدْ سَاقَ السُّيُوطِيّ آثَارًا فِي الْجُزْءِ الَّذِي سَمَّاهُ " الْمِنْحَةُ فِي السُّبْحَةِ " وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ كِتَابِهِ الْمَجْمُوعِ فِي الْفَتَاوَى وَقَالَ فِي آخِرِهِ : وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَلَا مِنْ الْخَلَفِ الْمَنْعُ مِنْ جَوَازِ عَدِّ الذِّكْرِ بِالسُّبْحَةِ بَلْ كَانَ أَكْثَرُهُمْ يَعُدُّونَهُ بِهَا وَلَا يَرَوْنَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا انْتَهَى .
وَفِي الْحَدِيثَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ وَهِيَ أَنَّ الذِّكْرَ يَتَضَاعَفُ وَيَتَعَدَّدُ بَعْدَمَا أَحَالَ الذَّاكِرُ عَلَى عَدَدِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ الذِّكْرُ فِي نَفْسِهِ فَيَحْصُلُ مَثَلًا عَلَى مُقْتَضَى هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ لِمَنْ قَالَ مَرَّةً وَاحِدَةً سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ التَّسْبِيحِ مَا لَا يَحْصُلُ لِمَنْ كَرَّرَ التَّسْبِيحَ ونقل الطّحاويّ عن ابن حجر قوله : الرّوايات بالتّسبيح بالنّوى والحصى كثيرة عن الصّحابة في بعض أمّهات المؤمنين ، بل رأى ذلك صلى الله عليه وسلم وأقرّ عليه.
وعقد التّسبيح بالأنامل أفضل من السّبحة ، وقيل : إن أمن الغلط فهو أولى ، وإلاّ فهي أولى.
ثانيا : التسبيح أثناء الخطبة:
قال الحنفيّة بكراهة التّسبيح لمستمع الخطبة ، لأنّه يشغله عن سماعها.
فإن كان بعيداً عن الخطيب ولا يسمعه فلا بأس به سرّاً عند بعض الحنفيّة ، والمعتمد في المذهب المنع مطلقاً للقريب والبعيد السّامع وغيره.
وعند المالكيّة يجوز الذّكر - على أنّه خلاف الأولى على المعتمد عندهم - من تسبيح وتهليل وغير ذلك ، إن كان قليلاً وبالسّرّ ، ويحرم الكثير مطلقاً ، كما يحرم القليل إذا كان جهراً.
والشّافعيّة والحنابلة لم يتعرّضوا للتّسبيح بخصوصه ، لكن تعرّضوا للذّكر أثناء الخطبة ، فقالوا : الأولى لغير السّامع للخطبة أن يشتغل بالتّلاوة والذّكر.
وأمّا السّامع فلا يشتغل بشيء من ذلك إلاّ بالصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا سمع ذكره.